ما بين الاجتهاد والاتباع وبين التجديد والتحديد أو بين الأصولية والتوفيقية والبحث عن هويتنا الإسلامية الحقة وددت أن أقرأ من على صفحات هذه الصحيفة الغراء (14 أكتوبر) مجتهداً كما فعل آخرون، تلك المفاهيم باختلافاتها واتفاقاتها في تلك الثقافة العربية الإسلامية المجتهدة التي حملت معها إرهاصات حضارية، وسعت إلى التجديد في فكرنا وخطابنا الديني منذ فواتح القرن العشرين، من حين تيقظ رجالات التنوير العرب على ما أصاب حضارتهم وما بلغت النهضة الأوروبية، بما تقدمت به في الفكر والحضارة الحديثة في ظل تراجع الفكر الإسلامي على إيقاعات تأثيرات ومؤثرات سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس.. وما أصابنا بعدها من تخلف وانحطاط حتى على تاريخنا ومآثرنا العلمية والفكرية. هذا التراجع الفكري العربي - الإسلامي الذي أفرز من بعده وعياً غير متبصر وثقافة متخلفة مسخت هويتنا العربية الإسلامية، ومن جور ما أفرط من بعد ذلك أهل التقليد والاتباع في تكبيل عقولنا وفكرنا بالقيود والأغلال.تيقظ رواد التنوير على واقعهم الرديء فأطلقوا صيحتهم الكبرى بعد أن نالوا حظهم في الإطلاع على ما لدى الغرب من علوم ونهضة هي في الأصل تراث العرب والمسلمين، وليس من فضل للغرب سوى أنهم نفضوا عنها الغبار ودرسوها ثم أقاموا عليها ثقافتهم وحضارتهم، فكان من أصداء الصيحة بلوغ مداها لتوقظ العالم الإسلامي والعربي خصوصاً من سباتهم العميق ليستعيدوا من جديد مجدهم التليد، بعد أن كان في ما مضى حقيقة واقعة.يقول الدكتور عبدالغفار عبدالرحيم في مقدمة كتابه “الإمام محمد عبده” : “لو أن باحثاً اطلع على المجتمع الإسلامي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لأدرك لأول وهلة أنه أمام مجتمع صائر إلى مصير محتوم. هو الفناء الذي لا محيص منه، إلا أن تنجم منه قوة خارقة تمسك به وتستنقذه من حافة الهاوية التي انتهى إليها”.ومن البديهي أن الله سبحانه وتعالى قد من علينا كأمة قضى ببقائها وخلودها ومنحها رجالاً أشداء أهل بصر وبصيرة يحملون هذا الإرث العظيم على أعناقهم وعواتقهم بتعاليمه الإسلامية السمحة إلى الحياة كي يعيدوا إلى هذه الأمة حيويتها وتجددها.والإسلام لولاه ما وجد أشخاص كهؤلاء في كل زمن وعصر يستثير فيهم كوامن القوة ويبعث فيهم الثورة والتمرد على الأوضاع الفاسدة في المجتمع والزائغ في الفكر والأخلاق وجمود العقل والترف المسرف، ويحرم عليهم الاستناد إلى تأويلات وتفسيرات تقود إلى الخنوع وبيع الضمائر .. ويهبهم كذلك الأصول والنصوص القوية الحكيمة التي يجلون في ضوئها المشاكل المبتدعة والمسائل المعقدة.ورغم ما تعرضت له هذه الأمة من سبات دام قروناً لكنها لم تعدم في عصر من عصورها من مجددين في الدين وأئمة في العلم والاجتهاد والفكر وأعلام في الإصلاح ورجال مجاهدين أزعم أنه لم يضاههم نظراؤهم في أي من الأمم، لا في عددهم ولا في علمهم وفكرهم، ولم يكن في ذلك وعلى مر هذه الأزمنة منذ الخلفاء الراشدين والدول الإسلامية الأولى في العراق والشام والإمبراطوريات التي امتدت إلى أوروبا وتخوم الصين وأدغال أفريقيا، لولا طبيعة هذا الدين العظيم وقدرته العجيبة على الإنتاج والتوليد، وطبيعة هذه الأمة وصلاحيتها لبعث الجديد هيأها الله لدور ريادي أيضاً للإنسانية كلها (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).وتجديد الخطاب الديني هو تجديد في الدين وهو أساس استخدام العقل في قضايا الإيمان بما لا يخالف النص القرآني أو الحديث النبوي بل في تفسيره وفقاً للمكان والزمان وحاجة الأمة حين تضل سبيلها وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى قال فيه (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها).واليوم ونحن قد دلفنا إلى القرن الحادي والعشرين وقاربنا تجاوز عقده الأول، وبرغم ما تحقق من معجزات العصر فإن واقعنا الإسلامي ما يزال في بعض جوانبه في ضعف وانحلال ومرد ذلك إلى احتجاب نزعة العقل عند البعض من علمائنا وفقهائنا في فهم جوهر الدين وتجديد خطابه وفقاً للعصر لعجزهم عن فهم واقع هذا العصر ومتغيراته وافتقارهم لمسلمات وشروط الاجتهاد التي يجب أن تتوافر فيهم، فيدفعهم ذلك إلى التواري مخافة عجزهم وإلى اجترار اجتهادات السابقين الصحيح منها والغث فلم يخرجوا عن إطار المقلدين متناسين (أن الحياة الإنسانية للمجتمع الإنساني هي حياة متطورة، ويجدون فيها من الأحداث والمعاملات اليوم ما لم يكونوا يعرفونه بالأمس).[c1]( يتبع)
أخبار متعلقة