أفكار
تؤكد معظم الأدبيات الاقتصادية أن الاستقرار الأمني عنصر أساسي للاستثمار, والدول الأكثر هدوءا أوفر حظا لجذب مزيد من رؤوس الأموال, لكن يبدو أن السودان سيكون الاستثناء الذي يعزز القاعدة، حيث توافدت عليه خلال الفترة الماضية شركات من الشرق والغرب لاستثمار ثرواته المعدنية والاستفادة من خيراته الزراعية، دون اكتراث بالتوترات السياسية والصراعات العسكرية. فالاشتباكات مستمرة في دارفور وتطل برأسها من وقت لآخر في جنوب السودان، والمكايدات تنذر بالخطر في الشمال وتهدد السلام في شرق البلاد.ولم تبق مصر بعيدة عن الهجمات الاقتصادية القادمة إلى السودان. فكشفت تحركات بعض المسئولين عن عزمهم التوجه إلى جنوب الوادي لزراعة أراض هناك بالحاصلات. الأمر الذي عكسته زيارة محمود محيي الدين وزير الاستثمار برفقة35 شركة للخرطوم أخيرا.ظاهريا ينسجم هذا الاهتمام مع خطوات واتفاقيات سبق الإعلان عنها في سنوات ماضية, لكنها لم تأخذ حظها من التنفيذ, فقد لعبت مجموعة من المكونات السياسية دورا سلبيا في تعطيلها, إلي أن بدأت تهب رياح متعددة دفعت إلي ضرورة تطوير العلاقات الاقتصادية. ظهرت تجلياتها في تحركات ومبادرات متعددة, وتبلورت في نشاط صاعد لعشرات من الشركات علي الجانبين. وستكون الزراعة المدخل المناسب للتعاون, وهو ما ينقلنا إلي البعد الجوهري في المسألة, الذي دفع إليه امتلاك السودان نحو200 مليون فدان صالحة للزراعة ، لم يستغل منها حتي الآن سوي30 مليونا, مما يجعل السودان بحق سلة غذاء العالم العربي ، وبإمكانه أن يحل جزءا أساسيا من مشكلة ارتفاع أسعار القمح وإغلاق ملف أزمة الخبز. وإذا كانت مصر تستورد6 ملايين طن قمح سنويا والسودان مليوني طن ، فإن زراعة نحو4 ملايين فدان يمكن أن تسد العجز في البلدين. وهناك20 مشروعا زراعيا جاهزا للتنفيذ، بخلاف مشروعات أخرى في مجالات الكهرباء والطاقة ورصف الطرق والبناء تقوم بها مصر حاليا في أنحاء مختلفة من السودان بقيمة1,6 مليار دولار.يساعد التحرك المصري على المستوي الاقتصادي في إيجاد نواة لشبكة قوية من المصالح ويضاعف بؤرة الاهتمام بالسودان وعدم حصره في العباءة الأمنية التقليدية . فأحد أهم انتقادات الإخوة في السودان أننا نتعامل مع بلدهم منذ فترة طويلة كمشكلة أمنية علي حساب أهميته الإستراتيجية. لذلك فالتحركات الاقتصادية الجديدة تعزز دورنا في قوات حفظ السلام في غرب وجنوب السودان, وتدعم المحاولات المصرية للوصول إلي تسوية سياسية تحافظ على وحدة البلاد . وبالتالي تتزايد أطر العلاقات التي تخدم الأمن القومي المصري.كما أن هذا الاتجاه يساعد علي عدم التخلف عن قطار الاستثمار الذي تزايدت سرعته في السودان وتتسابق على اللحاق به شركات عربية وأوروبية وأمريكية، بعد أن أطلقت الشركات الآسيوية صافرة القيام, لأن السودان الذي أصبح يوصف بـالأسد الإفريقي يمتلك ثروات وفيرة, جعلت بعض الدول تتجاوز عما تعتبره ثغرات سياسية وتسعى لإيجاد مخارج دبلوماسية لمشكلاته الأمنية، في حين يتخذها البعض الآخر ذريعة لترتيب أوراقه وتحقيق مكاسب اقتصادية لاحقة. في هذا السباق المحموم من الضروري أن يكون لمصر موضع قدم اقتصادي, يلبي طموحات استثمارية ويحافظ علي المصالح الحيوية.مشكلة هذا الاتجاه في الحساسية المفرطة لدى بعض السودانيين، فكل تحرك مصري إيجابي حيال بلادهم، يخضع لحسابات تتأثر غالبا برواسب تاريخية يتعمد البعض إساءة التفسير والفهم لعدد من جوانبها. وتخرج إلى السطح كلما تزايدت أو تراجعت تحركاتنا. ولعل اتخاذ التعداد السكاني الجديد في السودان ذريعة لفتح ملف حلايب أخيرا, يصب في مربع تعطيل الجهود المصرية, وخدمة قوى لا تريد للعلاقات بين البلدين الاستقرار. فما معنى إخراج هذا الملف من الأدراج في هذا التوقيت؟ربما يكون الطريق الساحلي وسيلة للتعاون البناء, حيث انتهت مصر من رصف حصتها(140 كيلو مترا) وشرعت في استكمال حصة الشريك السوداني المماثلة, على أن تتم تسوية المستحقات المالية بين الحكومتين في وقت لاحق ، حتى لا يتوقف العمل. فهذا الطريق سوف يكون شريانا مهما تطل منه مصر علي السودان وسيربطها بعدد كبير من الدول في قلب القارة الإفريقية. كما يمكن جعل مشروع الاستثمار الزراعي لمليوني فدان على الحدود, نواة لإغلاق بعض الملفات القلقة بشكل عملي, وهو ما يتعزز بالشروع في تنفيذ اتفاقية الحريات الأربع( التنقل والعمل والتملك والإقامة) التي لا تزال حبرا على ورق. وهذه العوامل تؤسس لعلاقة استراتيجية تبتعد كثيرا عن التوجهات السلبية لبعض القوي السياسية, ولا تجعلها رهينة لأي تصورات حزبية أو انفعالات لحظية أو تتأثر سلبا بأي سيناريوهات سودانية.لا تتوقف أهمية الاستثمار علي فرصه الاقتصادية, بل على دوره في الوصول للأمن, ومن ثم الاستقرار. وفي حالة السودان يمكن أن تكون الأمور مواتية لتحقيق هذا الغرض ، استنادا إلى خسارة جميع الأطراف السودانية من الحرب. وحتى الفصائل التي تستفيد من عملية استمرارها تدرك فداحتها علي مصالحها القادمة, لأن هناك توافقا علي نبذها والخلاف يدور أصلا علي طبيعة الحلول وآليات تنفيذها. ودفعت ضخامة الثروات وتنوعها بعض القوي الخارجية للعمل علي تحجيم الصراعات وعدم استبعاد تقديم إغراءات مادية لبعض الفصائل المسلحة. كما ثبت إخفاق الحلول العسكرية في وضع نهاية لكل الحروب السودانية, بسبب تعدد وتنوع مشارب القوى المتصارعة ووجود معادلة هشة تحكم خلافاتها, تحول دون انتصار طرف على آخر. ولعل نموذج التسوية في جنوب السودان يصلح كدليل ومرشد لهذا الاستنتاج. فقد لعب العامل الاقتصادي دورا حاسما في تمهيد الطريق أمام اتفاق نيفاشا للسلام ، الذي اكتملت معالمه عقب التأكد من تدفقات النفط في الجنوب.علي هذا الأساس يمكن أن يمثل الاستثمار حافزا مناسبا لوقف نزيف الدماء التي تسيل في دارفور، في ظل انسداد أفق التسوية السياسية التي رعتها جهات إقليمية ودولية ، وزيادة تعقيد استخدام الأدوات العسكرية من قبل الأطراف المحلية أو الإفريقية والدولية. وتراجع حماس التدخلات الخارجية بسبب تشابك مصالح بعض القوى الرئيسية، التي تضع عينا على ثروات دارفور الحافلة وأخرى على التزاماتها الدولية المتذبذبة. الأمر الذي تدركه الحكومة السودانية, محاولة إدارة قواعد اللعبة الاقتصادية بصورة تجنبها المخاطر السياسية والعسكرية, مستفيدة من التوازنات الواضحة في أجندة بعض القوى الدولية, التي ظهرت ملامحها في مواقف الصين مثلا من السودان داخل مجلس الأمن، إلى الحد الذي جعل بعض الدوائر الأمريكية تحمل بكين مسئولية الإخفاق الدولي في التعامل مع السودان. فهل تتكاتف القوى السودانية ليتحول الاستثمار إلى خيار للاستقرار؟.عن / صحيفة ( الأهرام ) المصرية