الإهداء : إلى الذين يعيشون بيننا بأجسادهم كأبطال المسلسلات الدينية في القرون الوسطى، ويعيشون في الماضي بعقولهم ومشاعرهم وأرواحهم كالأسماك التي تعيش في الماء لكنها لا تراه، وكالأقوام الذين يقولون لك : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا - أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا - أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون - أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون.وإلى الذين يقرؤون القرآن ليل نهار ويمرون بجانب الآية القرآنية الثالثة من سورة الأعراف ولا يتدبرون معانيها ولا يعلمون بما جاءت به وهي تأمرهم بأن يتبعوا ما أنزل ربهم إليهم ولا يتبعوا من دونه أولياء كالأسلاف والسادة الكبراء والمشايخ وتذكرهم تلك الآية العظيمة بأن القليل منهم هو الذي يتذكر ما جاءت به الآية.وتقول لهم آية أخرى جاءت في سورة البقرة عن الأسلاف بأن “تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتهم ولا تسألون عما كانوا يعملون”.ومع علمهم وحفظهم لهذه الآية يقول لك السلفي : نحن نفهم كتاب الله وسنة نبيه على فهم أسلافنا ، وكأن أسلافهم قد أحاطوا بعلم الله الذي لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ولم يؤتوا من العلم إلا قليلاً ، وحجروا القرآن بفهم بشر عاشوا في زمان ومكان محددين وهم يقرؤون القرآن الذي لا تنقضي عجائبه ولا يعلم تأويله إلا الذي أنزله ويعلم ما في أنفسنا ولا نعلم ما في نفسه ولا ما هو مقصده الإلهي سبحانه وتعالى ، خاصة في الآيات المتشابهات التي يفسرها أصحاب الزيغ والانحراف.لو سألت هذا السلفي : لماذا خلق الله لك عينين في مقدمة رأسك وليس في مؤخرة جمجمتك؟ أليس في هذا حكمة إلهية كالنظر إلى الأمام وليس إلى الخلف. وأنت تعيش في الماضي وفكر عنك أسلافك نيابة عنك لأنك فاقد الثقة في نفسك وتحتقر عقلك الذي لولاه لكنت كالعجماوات التي تعيش تأكل وتشرب وتتكاثر. ولولا هذا العقل لما اخترت أن تكون سلفياً مسلماً ولولا هذا العقل لما آمنت بأن القرآن حق والسنة حق والله حق والجنة ، وكل شيء أحقه الله فهو حق .. لقد حاولت أن أقترب أكثر وأكثر من إخواننا السلفيين من أجل معرفة طريق منهجهم في الفهم والفقه والتفكير وتبين لي مدى اهتمامهم وحرصهم على معرفة الدليل النقلي والعقلي القاطع والبرهان الساطع والقرينة والحجة والشاهد في كل مسألة من مسائل الدين عقيدة وشريعة ،عبادات ومعاملات. لكنهم للأسف يعتقدون في أسلافهم العصمة كما يعتقد الشيعة في شيوخهم ومرجعياتهم ولكن دون أن يشعروا بذلك ودون أن يعترفوا به ومع ذلك يقولون لك : كل واحد من مشايخنا يؤخذ منه ويرد إلا صاحب ذلك القبر ويقصدون به محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما هذا التناقض؟ّّ!.يفهمون الكتاب والسنة بعقول أسلافهم ويقولون لك : كل واحد من أولئك الأسلاف يؤخذ من كلامه ويرد؟! ودور عقولهم هنا فقط هو اختيار هذا ورد هذا. أما أن يكون لهم اجتهاد خاص بمشاكل واقعهم وزمنهم فهذا مستحيل لأن سلفهم قد أحاطوا علماً بكل ما سيحدث في الأزمنة القادمة وبكل مشاكلها الغيبية وما عليهم إلا تطبيق القياس السلفي الجاهز وتفصيله على كل مشكلة مستجدة ومستحدثة وكفى السلفيين الاجتهاد والتفكير ووجع الدماغ والفكر والعقل المستقر لديهم.إن السلفيين في بلادنا يكرهون الحوار والجدال إلا فيما بينهم فقط وممن هو متشبه بهم ولا يتشبهون إلا بأسلافهم وذلك ديدنهم وشغلهم الشاغل. وعندما تنظر إلى أحدهم تشعر بأنه غريب عن واقعه منقطع عن زمنه وكأنه من زمن ولا في الأحلام. وإن حاولت الاقتراب منهم وحاورتهم أو جادلتهم فإنهم يمقتونك أو يكرهونك مع أن الإنسان جدالي بفطرته بشهادة القرآن الكريم نفسه : (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)، والجدل في نظرهم يؤدي إلى الخصومة والغل والحسد والصراع والعداوات. مع أن الجدل هو الذي يعطي للحياة معنى عندما تتلاقح الأفكار والثقافات والمعارف والعلوم بين الشعوب والقبائل عبر التعارف والحوار والجدل بالتي هي أحسن ، كما أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم أن يجادل المخالفين له في الملة بالتي هي أحسن. السلفيون المعاصرون لنا يزعمون أنهم يطبقون سنة نبيهم لكنهم يكرهون الجدال بالحسنى وغير الحسنى، ونبينا جادل وناقش.لقد حاور النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ الكفار والمنافقين وأهل الكتاب حتى الجن تحاور معهم واستمعوا له . وتحاورت الملائكة مع رب السموات والأرض ولولا الجدال بين المرأة وزوجها لما ظهر الحق والعدل وسماع الشكوى وإنصاف المرأة المجادلة في القرآن. ونعتقد بأن مسألة النفور من الحوار والجدال أو الجدل عند السلفيين المعاصرين يرجع إلى قلة بضاعتهم في فهم واقعهم وكيفية التعامل مع الناس وإلى إيمانهم بأن مراحل التاريخ جامدة مكررة لا جديد فيها ولا اختلاف عن زمن أسلافهم القدماء، وأن الأفكار عندهم لا تتطور والحياة لا تتغير والوسائل لا تتجدد والمشاكل لا تختلف. وكأن التاريخ لا يتحرك إلا مرة واحدة حدثت في فجر الإسلام وعصور الخيرية الثلاثة التي تلته ، ما عدا ذلك فالتاريخ يعيد نفسه، والناس نسخ مكررة عن تلك الحقبة من العصر الذهبي للإسلام.وفوق هذا وذاك فالسلفي المعاصر ولد ليس له رأي حر ومستقل لأنه تربى على التلقين والتلقي والمشافهة والترديد والتكرار والاجترار ولم يشجعه أحد منذ صغره على إبداء الرأي المغاير والمبادرة؛ لأنه ولد مقموعاً خانعاً مسلوب الإرادة مرتهناً في تفكيره لغيره، شعاره الطاعة العمياء فكيف تنتظر منه أن يكون له رأي مستقل ويبادر إلى تغيير المنكر في واقعه الحاضر وهو يعيش في الماضي بأفكار من سبقوه ويحتقر العقل والتفكير الذي لولاه لما عرفنا أن النقل هو الدين الحق؟. ولكن يبدو أن فاقد الشيء لا يعطيه، وهناك أزمة فكر وفهم في منهج التفكير عند أخينا السلفي المعاصر. فهو يردد ليل نهار أقوال مشايخه الأسلاف من السادة الكبراء دون كلل ولا ملل وكأن تلك الأقوال هي والقرآن والسنة سواء بسواء. وليكذب من يقول منهم - أي السلفيين المعاصرين - بأنهم يعتمدون على الكتاب والسنة المعصومين فقط بل هم يعتمدون على شراح البخاري ومسلم وأصحاب السنن ويعتمدون على مفسري القرآن وكلهم بشر غير معصومين من الخطأ. فكيف يرتهن أحدهم بأفكاره ومعتقده على من كتب عليه السهو والخطأ والنسيان وغير المبرأ من التدليس والتلبيس؟ وفي الأخير يقول لك السلفي المعاصر أنا أفهم الكتاب والسنة على فهم السلف مع أن القرآن الكريم لم ترد فيه آية يقول الله فيها : أفلا يتدبرون القرآن على فهم السلف، والأسلاف القدماء رحمهم الله! منعوا تلاميذهم من تقليدهم وقالوا لهم خذوا من حيث أخذنا - أي القرآن والسنة - ولا تقلدونا ولا تقلدوا الثوري ولا الأوزاعي ولا الشافعي، وإخواننا السلفيون المعاصرون يقولون لنا هذا الكلام ولكنهم لا يطبقونه في أنفسهم بل يفعلون عكسه. ولكن من شب على شيء شاب عليه كما يقول المثل.هم يعلمون أن التقليد لا يكون إلا للإنسان الذي في عقله خفة وسفه والذي هو جاهل وعاجز لا يعلم من القرآن والسنة إلا أماني كما قال أميو أهل الكتاب من اليهود. والمستحق لتقليد العلماء هو الذي لا يستطيع الفهم ولا الفقه ولا يستطيع أن يتدبر أمور الدنيا والدين، والعاجز عن الاستنباط ومعرفة الحلال والحرام البين والواضح. أما من يستطيع تدبر كلام الله وسنة نبيه، الحصيف في رأيه وليس عنده زيغ ولا ميل ولا انحراف فينبغي له أن يبحث عن الحق في مظانه ولا يرهن تفكيره لغيره ومتى ما وجد الحق اتبعه لأن الإجماع هو ما وافق الحق وإن كنت وحدك. قال تعالى : “قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يرى عذاب شديد” (46) سبأ. وليس هناك تناقض بين العقل والنقل لأن النقل الصحيح لا يناقض العقل الصريح كما ورد عن حجة الإسلام ابن تيمية رحمه الله!.لقد شبه حجة الإسلام الغزالي العقل مع الوحي بأنهما نور على نور ولم يخاطب الله سبحانه وتعالى في القرآن إلا العقلاء، لا المجانين ولا فاقد البصر والبصيرة المرتهنين عقولهم للآخرين ومسلوبي الإرادة والقوة. ورسولنا الكريم يقول : “المؤمن القوي عند الله خير من المؤمن الضعيف”. غير الواثق من نفسه الضعيف في إيمانه، الضعيف مادياً ومعنوياً. إن الذي يلغي عقله وتفكيره يلغي حريته وآدميته وإنسانيته؛ لأنه يحتقر عقله ويحتقر من يفكر ويتدبر ويتأمل ويتعظ وينزل إلى مرتبة البهائم والدواب غير المكلفة.إن السلفي المعاصر في بلادنا يطبق شعار : أطفئ سراج عقلك وأتبعني. وهذا الشعار كان شعار الكنيسة المسيحية في القرون الوسطى في أوروبا. وهذا السلفي جعل من السلف الصالح رضوان الله عليهم كالباباوات والأحبار والرهبان الذين إذا ربطوا شيئاً في الأرض فقد ربطه الله في السماء. لأنهم يعتقدون بأن الباباوات ورجال الدين يمثلون الله في الأرض ويتكلمون نيابة عنه.إن مشكلة السلفي المعاصر في بلادنا أنه يعتمد في منهج تفكيره على الثقة وليس على الدليل كما يعتقد. ونسي أن العلماء الأسلاف هم حمالو أدلة وليسوا أدلة. فالحامل للدليل ليس كالدليل والرجال يعرفون بالحق وليس العكس. أعرف الحق تعرف أهله وليس العكس أيضاً كما قال الخليفة الرابع رضوان الله عليه!.فالذين يريدوننا أن نعود إلى الوراء وإلى الخلف ليسوا الحوثيين فحسب بل السلفيون أيضاً. وهذا واضح من اسمهم وصفتهم التي تدل على أنهم اقترضوا وتسلفوا واستعاروا من أسلافهم وآبائهم وأجدادهم عقولهم ومنحوا عقولهم فرصة التقاعد وعطلوها فذبلت وأصابها الضمور والضعف والخور حتى تكلست وصدئت وتحجرت حتى صارت لا فائدة مرجوة منها، وأصبح أصحابها نسخاً مكررة لخير سلف عرفه التاريخ الإسلامي.
أخبار متعلقة