أضواء
كنت في باريس لتسليم السيد جان بول كارترون ميدالية الإيسيسكو وشهادة اعتماده سفيراً للإيسيسكو للحوار بين الثقافات والحضارات، في حفل أقيم يوم 12 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، في مقر مجلس الشيوخ في باريس، وذلك تنفيذاً لقرار أصدره المجلس التنفيذي للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة -إيسيسكو، بعد ترشيحه من قبل المدير العام للإيسيسكو. ويعدّ تعيين السيد كارترون سفيراً للحوار بين الثقافات والحضارات، اعترافاً بجهوده في نشر ثقافة السلام والحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات، وتعزيز قيم التفاهم والتعايش بين الأمم والشعوب، وإقامة جسور التلاقي بين الشرق والغرب، وذلك من موقعه رئيساً لمنتدى (كرانز مونتانا) الذي يعقد مؤتمراته السنوية في مونتي كارلو، وتشارك فيه النخب الفكرية والسياسية رفيعة المستوى من مختلف دول العالم.وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها اختيار شخصية من خارج العالم الإسلامي لتمثيل منظمة إسلامية متخصّصة تعمل في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي في الساحة الدولية، والمساهمة معها في نشر ثقافة الحوار والاحترام المتبادل في المحافل العالمية. وتتمثل في شخصية السيد كارترون، تلك المزايا الفكرية والسجايا العلمية والخصال الأكاديمية التي تجعل منه الرجل المناسب للقيام بهذه المهمة في هذه المرحلة التاريخية المناسبة. وهو حدث فريد يحمل رمزاً ودلالة؛ أما الرمز فهو اختيار مجلس الشيوخ الفرنسي مكاناً لإقامة حفل التعيين، لما ينطوي عليه ذلك من احترام للشخصية الاعتبارية لسفير الإيسيسكو، الذي هو أولاً وقبل كل شيء، مواطن فرنسي، سيمثل هذه المنظمة ويعزز وجودها الدولي في مجال الحوار بين الثقافات والحضارات، تطوعاً منه وإيماناً بالرسالة الحضارية الإنسانية التي تعمل لها. فلا تداخل هنا ألبتة بين الطبيعتين الأصلية الاعتبارية، والتطوعية الاختيارية. أما الدلالة، فهي تلك التي تنطوي عليها أهداف هذه السفارة؛ فهي دعوة للحوار، وللنداء للسلام، ورسالة للإخاء الإنساني وللتفاهم وللتعايش، ينشرها مثقف فرنسي يحمل على عاتقه إرث الثقافة الفرنسية التي تؤمن بحقوق الإنسان وباحترام الكرامة الإنسانية، كما تؤمن بقيم العصر وبمبادئ القانون الدولي.فلا تعارض إطلاقاً بين هذا التراث الفكري والثقافي الغربي والإنساني، وبين جوهر القيم الإسلامية التي تخدم الإنسان وتكرمه وترفع من شأنه. فهي قيم إنسانية منفتحة على التراث الإنساني، وحاضنة لمبادئ الثقافات والحضارات المتعاقبة، بخلاف ما يشيعه عنها الخصوم المناوئون والمتطرفون المتعصبون. فقد جاء في الهدف الثالث من أهداف الإيسيسكو المسطرة في ميثاقها المصادق عليه من طرف المؤتمر العام، ما يلي: «تشجيع الحوار بين الحضارات والثقافات والأديان، والعمل على نشر قيم ثقافة العدل والسلام ومبادئ الحرية وحقوق الإنسان، وفقاً للمنظور الحضاري الإسلامي». وجاء في الهدف الثاني لميثاق الإيسيسكو، ما يلي: «تدعيم التفاهم بين الشعوب في الدول الأعضاء وخارجها، والمساهمة في إقرار السلم والأمن في العالم بشتى الوسائل ولاسيما عن طريق التربية والعلوم والثقافة والاتصال».والسيد كارترون هو سابع سفير للإيسيسكو للحوار بين الثقافات والحضارات، بعد سمو الأمير الحسن بن طلال ولي العهد الأردني الأسبق، والدكتور محاضير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق، والسيد أحمد مختار امبو المدير العام الأسبق لليونسكو، والسيدة مهربان علييفا حرم رئيس جمهورية آذربيجان ورئيسة مؤسسة حيدر علييف، والشيخ مديبو ديارا رئيس مؤسسة باث فايندر من جمهورية مالي. وهذه شخصيات ذات قيمة عالمية ووزن وطني وإقليمي ودولي، تطوعت أن تعمل على نشر رسالة الإيسيسكو الحضارية، وتعزيز ثقافة السلام على مبادئ العدل والإنصاف واحترام الخصوصيات الثقافية والحضارية للأمم والشعوب، التي هي من حقوق الإنسان المقررة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1948.في ترحيبي بصوت عاقل من الغرب («الحياة» 30/11/2008) قلت مشيداً بالمفكر الفرنسي الدكتور شارل سان برو: «إننا نفتقر إلى الحكماء المنصفين من المفكرين والمثقفين الغربيين، فإذا اخترق أحدٌ من هؤلاء جدار الصمت، وصدع بكلمة الحقّ، وأنصف الإسلام بالمنطق والحجة البالغة وبصوت الحكمة، كان ذلك مكسباً من المكاسب التي نعتزّ بها. ولكن المسألة ليست مكسباً وخسارةً فحسب، إذ يتطلّب الأمر استثمار هذه المكاسب على الوجه الصحيح، والترويج لها في ساحة الفكر الإنساني، لأنَّ المواجهة بين العالم الإسلامي والغرب، هي مواجهة فكرية ثقافية في الصميم». وأجدني اليوم سعيداً بأن أقول إن قبول السيد كارترون حملَ رسالة الإيسيسكو والعمل تحت مظلتها لنشر ثقافة الحوار وتعزيز قيم المواطنة العالمية على مبادئ حقوق الإنسان واحترام الخصوصيات الثقافية والحضارية والتنوّع الخلاق، هو مكسب لهذه القيم الإنسانية المشتركة في الدرجة الأولى. فلست أشكّ في أن السفير الجديد للإيسيسكو للحوار بين الثقافات والحضارات، سيعمل على إغناء تجربة المنظمة في هذا المجال، من خلال شبكة العلاقات الواسعة التي تتوافر لديه مع النخب الفكرية والسياسية والثقافية والإعلامية الأوروبية وغيرها، ومن خلال جهوده المثمرة والمتميزة في منتدى (كرانز مونتانا) الذي يرأسه، ومن خلال مواقع كثيرة يشغلها ويمكن أن ينشر منها رسالة الإيسيسكو الحضارية الإنسانية.وإذا كان ثمة من سؤال يطرح في هذا السياق، فهو عن السبل التي تنهجها الإيسيسكو والوسائل التي تخذها لتعزيز الحوار بين الثقافات والحضارات. إن الإيسيسكو تعمل في هذا المجال ممثلة لمنظومة العمل الإسلامي المشترك، وفي إطار قرارات صادرة عن مؤتمرات القمة الإسلامي ومؤتمرات مجلس وزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الإسلامي ومؤتمرها العام، والمؤتمر الإسلامي لوزراء الثقافة. فهي تتحرك إذن، في هذا المجال باسم العالم الإسلامي، معبرة عن الرؤية الإسلامية الحضارية للحوار بين الثقافات والحضارات. وهي رؤية حضارية ثقافية متفتحة على آفاق الفكر الإنساني، تعبّر عن جوهر الحضارة الإسلامية في أجمل تجلياتها وأروع عطاءاتها.واستناداً إلى هذه الخلفية، تتسع شبكة التعاون والشراكة التي تقيمها الإيسيسكو مع المجتمع الدولي ممثلاً في المنظمات والمؤسسات والهيئات الدولية. ففي الشهر الماضي وقعت الإيسيسكو على برنامج للتعاون مع البنك الدولي. وفي الشهر المقبل سأحضر باسم الإيسيسكو في باكو مؤتمراً لوزراء الثقافة في الدول الأوروبية وفي بعض دول العالم الإسلامي تعقده الحكومة الأذربيجانية بالتعاون مع مجلس أوروبا. وقبل أسبوعين شاركت الإيسيسكو مع منظمات دولية في عقد مؤتمر دولي في كوبنهاجن حول التربية على قيم التفاهم والحوار. وهذه تحركات تتم وفق برنامج مدروس ضمن برامج خطة العمل الثلاثية الحالية (2007-2009) التي صادق عليها المؤتمر العام في دورته التاسعة الأخيرة. وهي تصبُّ في قناة واسعة، هي نشر ثقافة العدل والسلام والتسامح والتعايش والحوار بين الثقافات والحضارات والأديان.وفي نيويورك عُقد أخيراً مؤتمر دولي للحوار بين أتباع الديانات في مقر الأمم المتحدة، دعت إليه المملكة العربية السعودية، وحضره خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وعدد من رؤساء الدول وكبار الشخصيات، انطلاقاً بدعوة خادم الحرمين الشريفين للحوار نحو آفاق عالمية واسعة بعد مؤتمري مكة ومدريد. وهو مؤتمر على قدر كبير من الأهمية يُظهر حرص المصلحين ومحبي السلام والعدل على معالجة مشاكل العصر بروح إنسانية متسامحة وفي إطار العمل المشترك لمواجهة دعاة الحروب والعنصرية والكراهية والتطرف.إن العالم اليوم في مفترق طرق بعد الانتخابات الأميركية التي أحدثت تغيّراً تاريخياً في مسار هذا البلد الكبير والخطير. وعلى العقلاء من قادة الغرب أن يبادروا إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتغيير خريطة الطريق التي وضعها المحافظون الجدد خلال السنوات الثماني الماضية والتي كانت وبالاً على العالم، وأن يعتمدوا خريطة طريق جديدة تنقذ البشرية من حماقات الجهلة وتجار الحروب.[c1]*عن/ صحيفة «الحياة» اللندنية[/c]