قبل سنوات سبع قرأت رواية " الرهينة" ، وكان كاتبها زيد مطيع دماج مازال حيا. لم أقرأ له شيئا لا قبلها ولا بعدها. ولم أجد في مكتباتنا الفلسطينية شيئا سواها. وعند وفاة الكاتب قررت أن أعيد قراءتها والكتابة عنها لكنني لم أعثر على النسخة في المكتبة العامة التي أخذتها منها في المرة الأولى. وربما أحداث الانتفاضة الفلسطينية التي بدأت في ذات العام غيرت الكثير من الخطط وطغت على كثير من تفاصيل الحياة والرغبات. لكن هذه الرواية تركت في نفسي أثرا كبيرا لدى قراءتها لما تصوره من أحداث عاشها اليمن " السعيد" في عهد الإمامة. ورغم وجود كثير من الكلمات غير المعروفة بالنسبة لغير اليمنيين. وإن كنت أوفر حظا من غيري. بمعرفة الكثير عن اللهجة اليمنية. إلا أنها كانت زاخرة بكلمات غير مفهومة. ولعل كلمات" الزامل" الذي اخترته عنوانا لهذا المقال الصغيريشكل نموذجا قويا على ذلك. فكلمة الزامل نفسها غير مفهومة لي، لكنني فهمت منها ما يدل على أنها مقولة، أغنية، موال،أو رثاء... وكلمة دويدار أيضا ليست مفهومة، لكنها فهمت في السياق، وتعبير قد أمك فاقدا لك أيضا من صميم اللهجة اليمنية كون كلمة قد تستخدم بالفصحى لكنها لا تستخدم مع الأسم على الأطلاق إلا لدى اليمنيين. ورغم كل ذلك وما قد يسببه من التباسات للقاريء إلا أنها حملت مدلولات جمة. ولخصت في هذه العبارة الجميلة المكثفة تجسيدا لكامل الرواية . مؤخرا عدت لقراءة الرواية، وللعلم أن كل قراءة للرواية جرت خلال جلسة متواصلة لبضع ساعات، لسببين هامين : أولهما كون الرواية تتمتع بجاذبية مغناطيسية لا يستطيع المرء منها فكاكا إلا إذا نتهى منها وثانيا لأنها صغيرة الحجم نسبيا كرواية. وعبارة " العنوان" هي الجملة الوحيدة التي ظلت عالقة في ذهني طيلة الأعوم السبعة بين القراءتين كجملة تحفظ عن ظهر قلب.وقد كتب عن الرواية الشيء الكثير كونها رواية ذاع صيتها وترجمت إلى خمس لغات وطبع منها ثلاثة ملايين نسخة. لذلك لن أكتب عن الرواية، رغم كونها زاخرة بالأحداث. وكنت سأكتب عنها ، لكن ما أن اخترت تلك العبارة للعنوان حتى وجدتني أنحو منحى آخر في الكتابة وهو اتجاه الكاتب لتعزيز فكرة ما يقوم العمل الأبداعي عليها وتترك صدى كبيرا في النفس، خاصة إذا أبدع الكاتب في استخدامها بطريقة تجعلها محببة للنفس محفوظة في القلب. بمعنى أن الكاتب لا يكررها بداع أو بغير داع، بل يكررها ويستخدمها ويلوح بها في الوقت المناسب حيث يعتقد أن القاريء اقترب من نسيانها فيذكره بها. وهذا ما فعله دماج مع " زامله" الجميل يا دويدار قد امك فاقدة لك دمعها كالمطر.وقد أصبحت هذه ظاهرة جميلة في الأدب العربي وتحديدا في عالم الرواية ، وإن كانت ليست جديدة على الأدب فهي ظاهرة وجدت في الشعر أيضا قبل أن توجد في الرواية.وقد أبدع في ذلك عدد من الكتاب مثل عبد الرحمن منيف وغسان كنفاني والطاهر وطار وحنان الشيخ وجمال يونس وغيرهم ممن لم يحضروا للذاكرة في هذه اللحظة في استخدام جملة ، عبارة، مثل، آية أو مشهد.فنجد عبد الرحمن منيف في رائعته "مدن الملح" استخدم عبارة " لو دامت لغيرك ما وصلت إليك" ومنيف بالمناسبة وحنان الشيخ وجمال يونس كتبوا كما كتب دماج عن خفايا مايدور في قصور" علية القوم"وكشفوا المستور . وتأتي هذه العبارة التي يكررها منيف في روايته لتعطي دفعة من الأمل وقت اشتداد اليأس، وتؤكد أن دوام الحال من المحال.فكلما أمعن القاريء في التوغل في سواد الصورة وكادت السوداوية تتسرب إلى روحه تأتي العبارة لتضخ إليه الأمل.أما كنفاني فاستخدم عبارة مشهدية كررها وهي إنه زمن الاشتباك ، وكان يقصد في كل مرة أن يوصل للقاريء ان الزمن ليس زمنا عاديا وفي الزمن غير العادي متوقع أن تحدث أشياء غير عادية.واستخدم الطاهر وطار الاسلوب ذاته في أكثر من عمل ففي إحدى رواياته العشق والموت في الزمن الحراشي وفي عرس بغل وفي قصصه القصيرة استحدم عبارات مثل "لا يبقى في الوادي إلا الحجارة، وكل إناء بما فيه يرشح . إضافة إلى الآية القرآنية "يوم تضع كل ذات حمل حملها و ترى الناس الحفاة العراة رعاة الشاه يتطاولون في البنيان" .واستخدمت حنان الشيخ عبارة " حكايتي شرح يطول" في روايتها التوثيقية التي حملت ذات الأسم بشكل مشهدي يوحي للقاريء بحضور الراوي وطول نفسه الروائي بطريقة ممتعة تهيء القاريء نفسيا لسماع أو قراءة الحكاية.أما جمال يونس، فاستحدم في روايته اليتيمة التي أخذه الموت قبل أن يكتب الثانية والتي حملت عنوان" الرأس" فقد كان الراس المنفصل عن بقية أعضاء الجسد يطل بين لحظة وأخرى ليقول شيئا أو ليسخر مما يجري في عالم القصور الموبوء بالامراض الاجتماعية.
|
ثقافة
يادويدار قدامك ... دمعها كالمطر
أخبار متعلقة