عن ساكني صنعاء
عبدالله علوانالقاضي عبدالرحمن بن يحيى الآنسي هو نفسه الشاعر الحميني وهو الشاعر الغنائي العفيف عبدالرحمن بن يحيى الآنسي.وبين القضاء والشعر وجه شبه خفي وجلي في آن .. خفي في الموقف والمقام ، فللقاضي موقف ومقام يختلفان عن موقف ومقام الشاعر، لكن هما يشتركان في الكشف عن الحقيقة والاجتهاد فيها. أو بمعنى أدق أن بين القاضي والشاعر تشابهاً وتمايزاً في آن ، فالقاضي يجتهد لبيان حقيقة الأمور المتنازع عليها، ويحتال لتطبيقها احتيال الخائف من انتقام أحد الطرفين المتنازعين ، واذا كان الاجتهاد حقاً له في معرفة الحقيقة والحكم بها بقصد العدل ، فان الاحتيال باطل وان كان العدل غايته.أما الشاعر فانه يجتهد لبيان الحقيقة الشعرية وتقديمها في صورة بلاغية خالية من الاحتيال إلا بما يخدم الحقيقة الشعرية حتى وان ساطه النقاد بسياط النقد الأدبي ، بغية التقويم والتهذيب.وبين الحقيقة الشرعية والحقيقة الشعرية مسافة واسعة هي المسافة بين قواعد الشرع ، وبين قواعد الشعر، أو هي المسافة بين القاضي الذي يتوخى الحقيقة الشرعية ، وبين الشاعر الذي يتوخى الحقيقة الشعرية .والقاضي عبدالرحمن بن يحيى الآنسي عاش في الفترة من 1168هـ حتى وفاته عام 1250هـ (1756 ــ 1834هـ ) تقريباً وكان من اقطاب الدولة القاسمية وتولى فيها القضاء طول حياته وفي نواحٍ مختلفة من اليمن ، وكان رجلاً فاضلاً وشجاعاً يتوخى الحق ويقيمه بالاجتهاد ، أو بالاقناع تارة ، أو بالعنف والاكراه ، حيث لاينفع الاقناع والرضا ، تارة اخرى ، وكان هذا القاضي مع شجاعته وعلمه وعفته ، لايدخل في أمر إلا وعرف كيف يخرج منه ، وكان موقفه هذا يدخله في مآزق سياسية وقضائية ، كما يقول عنه العلامة محمد علي الشوكاني في (البدر الطالع ج 1) .لكن عبدالرحمن بن يحيى الآنسي هذا مات عام 1834م ، ولايعرف احد عن مهنته القضائية إلا ما كتبته المعاجم ، وكتب التاريخ ، ماعدا ذلك فقد مات وتغمده الله برحمته .أما الشاعر عبدالرحمن بن يحيى الآنسي ، فهو الخالد في شعره ، وهو الحي في اشعاره التي يرددها المغنون في الاذاعة والتلفزيون ، وتنال الدرس الأدبي عند فقهاء الشعر الحميني ، عبر الكتب والمجلات والصحافة ومن اشعاره الجميلة هذه الجملة الشعرية :[c1]عن ساكني صنعاء[/c]وهذه الجملة الشعرية هي صدر البيت الأول من المبيتة الخامسة من قصيدته المعروفة (ياحي يا قيوم) اولى قصائد ديوانه (ترجيع الاطيار):عن ساكني صنعاء[c1] *** [/c]حديثك هات وافوج النسيموخفف المسعى[c1] *** [/c]وقف كي يفهم القلب الكليمهل عهدنا يرعى ..؟[c1] *** [/c]ومايرعى العهود إلا الكريم وسرنا مكتوم ..؟[c1] *** [/c]لديهم أم معرض للظهور ..؟ ولبيان هذه المبيتة الخامسة ، لابد من الوقوف عند قصيدته (ياحي ياقيوم) مقطعاً مقطعاً حتى ندرك جمال الشعر الحميني من حيث الموضوع الجمالي ومن حيث التركيب اللغوي والبناء العروضي ، أو ما يعرف بموسيقى القصيدة .تتكون قصيدة ياحي ياقيوم من اربعين بيتاً وفق اصطلاح شعراء العمود ، ولكن هذه الابيات موزعة على عشرة مقاطع بيتية من نسق الشعر الحميني ، "المبيت" وفق اصطلاح شعراء الشعر الحميني وانساقه ومصطلحاته .فالبيت الحميني هو مقطع شعري لايقل عن بيتين كما هو حال قصيدة "ما للفراق ليت الفراق لاكان" وقد يصل المقطع إلى ثمانية ابيات كما هو الحال في قصيدة "ياقدير يامقدر" ولكنها غالباً ما تقوم على اربعة ابيات كما هو حال هذه القصيدة (ياحي ياقيوم).وقد يبدو المقطع الحميني ، مستقلاً من حيث التقسيم الشكلي عن بقية القصيدة ولكن هذا المقطع المبيت يرتبط من حيث المضمون ارتباطاً ليس عضوياً ، وانما ارتباطاً شعورياً بالقصيدة ، أي ان القصيدة تقوم على نسق شعري واحد ، ولكنه نسق مقسم تقسيماً منهجياً ــ شعورياً ، فكل قسم يأخذ عدة مقاطع شعورية ، وكل مقطع شعري هو جزء من اقسام القصيدة الكلية.في قصيدة " ياحي ياقيوم" ينقسم الموضوع الجمالي إلى ثلاثة اقسام شعرية.فالقسم الأول يتكون من خمسة مقاطع شعرية هو مدخل إلى القصيدة، أو مقدمة لها ويمكن تسمية هذه المقدمة بالورطة ـ ورطة القاضي في مهمته ..ويأتي القسم الثاني ليقول مقاصده الشعرية أو الموضوع الجمالي المقصود وهو محنة الشاعر الوفي ،نقض العهود من قبل احبابه ..أما القسم الثالث فهو النهاية ويطلب من المستمع الصلاة على الرسول الذي يتصف بالعصمة دون غيره من البشر.يتكون القسم الأول من اربعة مقاطع شعرية هي دعاء وابتهال لله والتوسل برسوله بغرض التحرر من الاحزان والتطهر من البلوى واللجوء إلى الله والاستسلام لقدره ، بعد أن (خابت آماله) باحبابه ، وتنكروا له .فالبيت الأول دعاء لله يدعو الشاعر ربه بصفاته الدائمة فهو الحي القيوم وهو "العالم بما تخفي الصدور" وهو الذي يرزق المحروم ، وهو نصير المظلومين من الطغاة الجائرين ، وهو القادر على تنفيذ كل قضاء وقدر في المؤمن وفي الكافر أنه لفعال لما يريد :ياحي ياقيوم[c1] *** [/c]ياعالم بما تخفي الصدوريارازق المحروم[c1] *** [/c]يامن بحر جوده لايغوريا ناصر المظلوم[c1] *** [/c]يا ذا الانتقام ممن يحوريا منفذ المحتوم[c1] *** [/c]في الساخط وفي الراضي الغفوروهذا الدعاء يفضي إلى السؤال والتوسل :أسألك يارحمن[c1] *** [/c]بالنور الذي لاينطفيسيد ولد عدنان[c1] *** [/c]حبيبك من توسل به كفىان تذهب الاحزان[c1] *** [/c]والامحان باللطف الخفيوتكشف المهموم[c1] *** [/c]وتكفينا مهمات الاموروبعد التوسل وطلب اللطف من الله بازالة الاحزان وكشف المهموم وتجنيبه "مهمات الامور" مع العلم ان في مهمات الأمور هذه يكمن اعترافه بورطته التي لايعلمها إلا الله .. فلقد تجشم الشاعر مهمة ، إما ان تكون مهمة قضائية بحكم المهنة ، وأما ان تكون مهمة سياسية تتوارى خلف جبة القاضي ، ثم قام بتأديتها وتنفيذها بطريقة لم تعجب أحبابه من اقطاب الدولة القاسمية ، فذاق الأمرين : مرارة الحقيقة التي نفذها من جهة ، ومرارة احبابه في صنعاء من جهة اخرى ،وفي ذلك كان ضعفه وعاقبة تنفيذه مهمات الامور ، التي بدورها كانت السبب في الدخول إلى مكابدة وحمل اثقال تلك المهام فكانت الهموم والاحزان ..؟وبعد السؤال والتوسل ينتقل الشاعر إلى المقطع الرابع وفيه نجد بيان الحال حال الشاعر أو حال للقاضي :قد ضاقت الاحوال[c1] *** [/c]وضاع الاحتيال والاجتهادوخابت الآمال[c1] *** [/c]إلا فيك يارب العبادفخفف الاثقال[c1] *** [/c]وداوِ بالصلاح داء الفسادوسامح المأثوم[c1] *** [/c]واغفر أنك الرب الغفورالمبيتة اعلاه تصور حالة القاضي وضيق حاله وعجزه عن الاحتيال وعن الاجتهاد بغية الخروج من ورطته ثم خيبة آماله ، باحبابه بسبب تحمله عبئاً ثقيلاً ، هو عبء المهمة التي لايعلم كنهها إلا الله.وهذه المبيتة هي في الحقيقة تكشف عجز القاضي المتورط بامر هام ..؟ وامر كان قصده منه الخير، فانقلب مسعاه إلى ويل ، وكان هذا العجز عجزه ، وليس عجز الشاعر ولكن هذه النية الطيبة ، كالورطة بقيت في علم الله.لكن القاضي يرتدف الشاعر ويتجه به إلى الله طالباً العفو والتسامح عن أثمه .. ويطالب المغفرة عن آثامه التي ربما تكون آثام القاضي ليس آثام الشاعر.ومن بيان الحال ينتقل الشاعر إلى المبيتة الرابعة ليعلن عن الحالة الاضطرارية التي تورط بها مجبراً لا مخيراً ، وورطة لم يقلها بصراحة ، ولكنه اوحى الينا بها ، عبر لفظة " المضطر" فقد اضطرته وظيفته القضائية إلى عمل فعل ارتجله ، واضطرار دفع به إلى الضر والاساءة وبسببه راح يطلب من العلي القدير العفو :من يرحم المضطر[c1] *** [/c]أمن ذا يجيبه إن دعاهومن لدفع الضر[c1] *** [/c]وكشف السوء إن أعيا دواهإلا الله الاقدر[c1] *** [/c]على ما شاء والمقدر سواهالموجد المعدوم[c1] *** [/c]والمعدم وجوده بالدثوروبهذا المقطع ينتهي القسم الأول، وهو قسم يوحي بجريرة القاضي وهي جريرة عجز عندها الاجتهاد والاحتيال وألجأه عجزه إلى الله العلي القدير ، فسلم امره له واعترف بجريرته اعترافاً غير مباشر ، ولكن ليس عبر القاضي، بل عبر الشاعر، لقد ارتدف القاضي الشاعر وراح يتطهر من ذنبه، لانه لم يكن ذنباً مقصوداً ، وانما كان فعلاً محكوماً بالنية الطيبة كما قلنا، ونية لم يفصح عنها الشاعر ولكنه تركها لله " العالم بما تخفي الصدور" وكفانا مهمة البحث عنها.وما ان يغادر قسم التوبة والتطهر من الذنب حتى ينتقل إلى القسم الثاني وموضوعه "العهد" الذي ابرمه مع احبابه فنكثوا به، ولفقوا عليه تهمة النكث بالعهد وراح يدفع عن نفسه التهمة بالايمان الصادقة .ففي المقطع الخامس، وهو بيت القصيد عندنا، ينتقل الشاعر مباشرة إلى العتاب، والاستنجاد بافواج النسيم وان تأتيه بالحديث عن احبابه ويكني عنهم بساكني صنعاء:عن ساكني صنعاء[c1] *** [/c]حديثك هات وافوج النسيموخفف المسعى[c1] *** [/c]وقف كي يفهم القلب الكليمهل عهدنا يرعى ..؟[c1] *** [/c]ومايرعى العهود إلا الكريم وسرنا مكتوم ..؟[c1] *** [/c]لديهم أم معرض للظهور ..؟لقد ارتكب القاضي جريرة قمطها بالابتهالات الدينية وبالادعية المقتبسة من القرآن، فقد وقع القاضي في ورطة سياسية أو قضائية ارتدف لها الشاعر وتغطى بها ، ثم راح عبر الشاعر يستنجد بالنسيم ليخبره عن سكان صنعاء.وسأله ان يسعى إليه سعياً خفيفاً حتى لايفزعه أو قل راح يطلب من النسيم ان يقف وقوف المتكلم ، الرابط الجأش ويخاطب القلب الكليم خطاباً لطيفاً حتى يتفهم القلب اخبار احبائه القادمة إليه عبر افواج النسيم.ثم سأله عما اذا كان سكان صنعاء "وهم كناية عن احبابه" مازالوا مراعين لعهده ثم يردف استفهامه بشطر شعري يمتدح به الاوفياء بالعهود "فما يرعى العهود إلا الكريم".وسؤال ثالث يسألهم عما اذا كان سره مكتوماً ام ان سره قد فشا وذاع بين الناس، وفي هذا السر الذي لايعلمه غير الشاعر، تكمن ماساة الشاعر ومحنته؟ الشاعر هنا ، او القاضي قلق وحزين القلب، وكسير النفس ، ومجروح من احبابه ناكثي العهود، وملفقي تهمتهم عليه، ويعبر عن قلقه هذا وعن حزنه وجرحه بلغة الشعر الغزلي فالنسيم رسول عشاق مفارقين والتلطف بالسؤال من خصائص شعراء الغزل.