بيروت/ وكالات:اعتمدت الدراسات التاريخية العربية لتأريخ الأحداث الدولية التي تتعلق بالوطن العربي على الرجوع إلى الأرشيف البريطاني المتوافر والمفتوح للباحثين في مرحلة الثلاثينات والأربعينات، وعلى الأرشيف الفرنسي بدرجة أقل نظراً لتراجع موقع فرنسا الاستعماري خلال الحرب وتضعضعه. ونظراً لتحفظ السلطات الروسية في العهد السوفييتي في نشر وثائقها أمام الباحثين، أصبحت الوثائق البريطانية هي المرجع الرئيسي والأساسي، خصوصاً أن هذه الوثائق مفهرسة ومبوبة بطريقة سهلة التناول. التاريخ لا يوثق من جانب المنتصر فقط، ولا يكتبه من أملى وفرض شروطه بالقوة فحسب، خصوصاً حين تكون القضية التاريخية ذات أبعاد دولية. فلا بدّ من الاطلاع على جوانب القضية كافة، وقراءة وثائق جميع الأطراف المشاركة. وهذا ما لم يحصل بالنسبة للوثائق الألمانية والإيطالية، ولم تراجع الوثائق العثمانية مع ما لها من أهمية وما شكلت من مقدمات ما زلنا نعيش تداعياتها حتى يومنا هذا خصوصاً على صعيد الصراع العربي ـ الإسرائيلي. مشروعية نشر هذه الوثائق الألمانية في الوقت الراهن تقوم على معاصرتها، أي ما يمكن تفسير وقائع جارية حالياً على ضوئها، وما تطرحه من جديد لتصويب ما تم الترويج له وتعميمه كحقائق مزعومة أملاها على التاريخ المنتصر في الوقت الذي تكون كلمته هي الأعلى، والمهزوم بلا صوت أو حنجرة ولا يملك الدفاع عن نفسه. تعود العلاقات العربية ـ الألمانية إلى أيام الدولة العثمانية. فقد استخدم العثمانيون الضباط والخبراء الألمان في تدريب وتسليح الجيش العثماني وفي بعض مرافق الدولة الأخرى. وكانت الدولة العثمانية ترسل بعثات من ضباطها للمدارس العسكرية الألمانية وتستقدم الخبراء الألمان لتنظيم الجيش العثماني في تركيا وبعض الأقطار التابعة لها، ومنها الأقطار العربية. ومن أشهر القادة الألمان الذين خدموا الجيش العثماني الماريشال البروسي "كولمان فان در غولتز" المعروف بـ"غولج باشا" والذي انتدب للعمل في الجيش العثماني في اسطنبول والعراق ووضع مؤلفات مهمة في التاريخ العسكري. دخلت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ونتيجة لهزيمتهما أمام الحلفاء انحسر النفوذ الألماني عن منطقة الشرق الأوسط كلياً، وانسحب العثمانيون من الأراضي العربية. ولم يعد لألمانيا دور في القضايا الدولية حتى العام 1936 حين قبلت عضويتها في عصبة الأمم بوصفها دولة قوية كبرى، وأصبح لها صوت مسموع في القضايا الدولية ومنها القضايا المتعلقة بالعراق وسورية وفلسطين، على الرغم من أن أولوياتها كانت معنية بوضعها الأوروبي والتخلص من القيود التي فرضتها عليها معاهدة فرساي. الفترة الممتدة بين عامي 1937 ـ 1941 التي ينشر هذا الكتاب وثائق ألمانية منها، تمتد منذ أن استعادت ألمانيا قوتها ودورها العالمي، وذلك قبل نشوب الحرب العالمية الثانية بقليل وحتى منتصف الحرب. وقد شهدت هذه الفترة استقلالا أو شبه استقلال لبعض الدول العربية، فدخلت تلك الدول في علاقات مع ألمانيا بدرجات متفاوتة. وارتفع حجم التبادل التجاري معها تدريجياً حتى بلغت صادرات ألمانيا إلى العراق مثلاً في العام 1937 سبعة ملايين مارك، ووصلت في العام التالي إلى تسعة ملايين مارك. وبما أن ألمانيا كانت تسعى للحصول على العملة الأجنبية، فقد قامت بتأييد انقلاب بكر صدقي في العراق وجرت مفاوضات سرية مع الانقلابيين لتزويد الجيش العراقي بالأسلحة الألمانية. فأصبحت الظروف مهيأة لتغلغل النفوذ الألماني سياسياً واقتصادياً وبلغ أوجه بالتأييد الكلي والعلني لحركة رشيد عالي الكيلاني. تحتوي هذه المجموعة التي نشرتها دار "الوراق" في لندن على وثائق تتناول بصورة خاصة المراسلات التي دارت بين وزارة الخارجية الألمانية وسفاراتها ومفوضياتها في العراق والمملكة العربية السعودية وغيرهما من أقطار المشرق العربي، وتلقي أضواء جديدة على تطورات قضية فلسطين وموقف ألمانيا منها، وتحتوي أيضاً على وثائق مهمة جداً وغير منشورة سابقاً. ينقسم الكتاب إلى ستة أقسام: يتناول القسم الأول وثائق وزارة الخارجية الألمانية عن الفترة بين حزيران / يونيو 1937، وآذار/ مارس 1939 وتضم 29 وثيقة تتناول الموقف الألماني الذي يجب اتخاذه من إنشاء دولة يهودية تحت الانتداب البريطاني، والتقسيم الثلاثي لفلسطين بين العرب واليهود وبريطانيا، وتقرير حول سياسة مفتي القدس واللجنة الوطنية العربية، والتحويلات المالية من القطع الأجنبي من ألمانيا إلى فلسطين، وتقرير الحزب النازي عن العلاقات مع العربية السعودية، ورفض وزير الخارجية الألماني تسليح السعودية، وتقرير حول الوضع في سورية وكيفية تفعيل الحركة القومية فيها، وغيرها من التقارير والوثائق التي تشكل بمجموعها سياقاً تاريخياً يمكن البناء عليه لفهم مسار هذه الفترة التاريخية. أما القسم الثاني فيتألف من أربعة وثائق عن الفترة بين شهر آذار/ مارس ـ آب / أغسطس 1939، وهذه التقارير تتناول سبب عدم بناء علاقات وثيقة مع السعودية، والمباحثات السعودية الألمانية ولقاء ممثل ابن سعود مع هتلر وبحث العلاقات بين الطرفين. ويضم القسم الثالث وثائق عن الفترة بين شهر حزيران/يونيو وآب / أغسطس 1940 ويضم ثمانية تقارير عن الوضع في سورية والعراق والمنطقة، وتقرير حول تأسيس أمبراطورية عربية شمالية تحت سيطرة العراق، ورسالة المفتي الأكبر إلى سفير ألمانيا في تركيا، وتقرير حول موقف رشيد عالي الكيلاني وعلاقته بألمانيا، وتقرير حول الطلبات العديدة من العالم العربي والتي تطلب المساعدة من الألمان. يحتوي القسم الرابع على وثائق وزارة الخارجية الألمانية عن الفترة من أيلول / سبتمبر ـ كانون الثاني / يناير 1941 وهي مؤلفة من 21 وثيقة وتدور حول شروط التحرر من النفوذ البريطاني، ومقترحات المفتي بتدمير أنابيب النفط العراقية، وطلب وزير العدل العراقي بإصدار بيان من المحور بالمساعدة على استقلال سورية والعراق وفلسطين وبيان ألماني بمساعدة العرب للاستقلال وتصريح الحكومة الإيطالية بأنها قد أعطت العراق وعداً مكتوباً باستقلال العراق وسورية وفلسطين وشرق الأردن، وتقرير سري من المفتي إلى الألمان حول موقف الدول العربية من السوفييت. وتقرير حول زيارة المفتي والاتصالات بين العرب والألمان. وتهديد بريطانيا للكيلاني بشأن استئناف العلاقات مع ألمانيا. ونص رسالة المفتي إلى هتلر التي أرسلها من بغداد. ويضم القسم الخامس 48 وثيقة عن الفترة بين شباط / فبراير ـ حزيران / يونيو 1941 وهذه الفترة شكلت ذروة انتصارات ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وقد تكثفت فيها التقارير نتيجة التحولات والتطورات المستجدة. وتضم هذه المجموعة من الوثائق تقارير عن تسليح العراق وتسليمه وحدة لصناعة الألغام، وتقريراً عن مفاوضات المفتي الأكبر وطلب دعم الكيلاني، وآخر عن كيفية التنسيق بين التوجهات الألمانية الحقيقية والوعود السرية للعرب لتشكيل امبراطورية عربية والمشاكل التي تنجم عن قيام هذه الامبراطورية المعهودة، وتقريراً عن موقف ألمانيا من العرب ورؤيتها للعالم العربي بعد الانتصار على بريطانيا. ونقرأ تقارير أخرى حول الوضع العسكري في العراق، ورأياً من السفارة الألمانية في طهران حول طريقة نقل السلاح إلى العراق، وتفاعل إيران مع الوضع العراقي واستخدام المطارات السورية لمساعدة العراق عسكرياً، وطلب الحكومة العراقية 80000 جنيه ذهبي من الألمان فوراً، وهجوم القوات البريطانية على بغداد، ورغبة المفتي والكيلاني والشريف شرف في الإقامة في سورية، وغيرها من الوثائق والتقارير ذات الأبعاد التي تشير إلى التراجع العسكري الألماني في المنطقة. يضم القسم السادس والأخير 27 تقريراً عن الفترة بين حزيران / يونيو ـ كانون الأول / نوفمبر 1941 وتحتوي تقريراً مهماً حول استقلال سورية وموقف بريطانيا وألمانيا من المصالح الفرنسية هناك، ودور مصر في هذا الاستقلال، وقرار بريطانيا احتلال مناطق النفط في إيران واحتلال تركيا لشمال سورية ( الاسكندرون)، والعلاقات المراكشية الألمانية ودور الدول التي لها مصالح في مراكش، ونص مسودة الإعلان المشترك بين مفتي فلسطين والحكومة الألمانية حول فلسطين والعرب، ومحضر اجتماع المفتي مع وزير الخارجية الألمانية ونص البيان مع هتلر. وتقرير حول زيارة الكيلاني وطلب الاعتراف به رئيساً لوزراء العراق. يضم الكتاب ترجمة لـ 137 وثيقة يأتي نشرها ليضيف مراجع هامة عن العلاقات العربية الألمانية، ليس فقط عن مرحلة الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، بل ليضيء ما آلت إليه الأوضاع والمخططات التي يكشف النقاب عنها اليوم والتي كنا نأخذها من مراجع المنتصر، فأضاف نشر هذه الوثائق مرجعاً جديداً وثميناً لتتضح الصورة بكافة جوانبها ومن كافة المشاركين في صنعها.
|
ثقافة
وثائق ألمانية عن العرب ما تزال تحتفظ بمعاصرتها بعد الوثائق البريطانية والفرنسية
أخبار متعلقة