د. محمد عبده غانم - عاشق الغناء الصنعاني :
نعم .. لحن القمندان إحدى قصائدي الشعرية حاوره : أبو مجدالحوار مع الدكتور/ محمد عبده غانم.. شيق، وشاق.. في الآن ذاته!! هو شيق.. لأنّه يتحول إلى نوعٍ من اكتساب المعارف.. وهو شاق .. لأنّ غانم تمامًا، كصنعاء التي أحبها )يحوي كل فن!!) ورغم أنّ غانم هو الخريج الجامعي الأول في شبه جزيرة العرب عام 1936م من جامعة بيروت الأمريكية.. ورغم أنّه أمتهن التدريس طوال حياته، وأسهم في صياغة المناهج الدراسية المحلية في عدن في حقول اللغة العربية والجغرافيا.. الخ. بل هو بحق الرائد في هذا المجال يوم كانت مدارس عدن تعتمد كليًا على المناهج المستوردة.. ورغم أنّه الشاعر الذي صدر له حتى الآن ستة من الدواوين.. فإنّ المثير حقًا أنّه ظل يمهر قصائده الأولى باسم مستعار هو (فتى صيرة) ليتيح للنقاد يومئذٍ أن يتناولوا شعره بالنقد دون حرجٍ من شخصيته.. ورغم أنّه في مجال الشعر الفصيح، على الأقل، قد كان أكثر شعراء اليمن نزوعًا إلى التجديد، ومثل البداية الحقيقية للشعر الرومانسي في اليمن، قبل أن يتجه بشعره إلى الكلاسيكية الحديثة، كما يقول الناقد الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح.ورغم أنّه طرق باب المسرح الشعري، فرفد المكتبة اليمنية بأربع مسرحيات شعرية مستوحاة من شخصيات تاريخية يمنية.. وقد أخرج أحدها وهي مسرحية ( الملكة أروى) القاص السوداني المعروف (الطيب صالح) .. علاوةً على إسهامه الكبير في الحياة الثقافية والاجتماعية والرياضية.. وكذلك لم يبخل قلمه على المجتمع بالعديد من المساهمات في الصحافة والإذاعة والتلفاز التي تحولت بعض آرائه النقدية فيها إلى كتاب خرج إلى الأسواق منذ سنوات أقول.. رغم هذا وذاك، وغيرها من الفنون التي اقترن اسم (محمد عبده غانم) بها.. إلا أننا آثرنا أن نخص القراء بجانب مشرق في حياة غانم.. ألا وهو رحلته مع الأغنية اليمنية.قلت له : دكتور غانم .. هل يمكن أن تعود بنا إلى البدايات الأولى لعَلاقتك بالنغم؟ابتسم وقال : أولاً أسمح لي يا اخ عبد القادر أن أشكرك شخصيًا على أن تخصني بهذا الحوار..وكنت أظن أن ّحوارك معي قبل عقودٍ من الزمان والذي نشرته في كتابك الذي طبعته في الكويت (حوار في الفن والحب) كفيل بأن يقنعك بضعفي عن مجاراة الأسئلة الصحفية.على وجه العموم.. فأنا أُدين لوالدي رحمه الله باهتمامي بالأغنية .. فقد كنت أشهد معه العديد من الحفلات (المقايل) التي لم تكن لتخلو من كبار الفنانين والذين ذاع صيتهم في محافل الغُناء الصنعاني بمدينة عدن.. كما كان والدي هو الذي شجعني على الإقدام على العزف بآلة (القمبوس) وهو العود الصنعاني ذي الأوتار الأربعة.. وظل القمبوس يرافقني منذ تلك الفترة من ميعة الصبا إلى أن تحولت منه إلى العزف على العود ذي الأوتار الخمسة والذي أخاله قدم إلينا من مصرَ والشام.. نعم تلك كانت البداية إن شئت، وحقًا أقول لقد كان يسود التنافس الشريف بين كبار المطربين يؤمئذٍ وكان أكثرهم معتدًا بما يقدمه لجمهوره الخاص رغم أنّهم ينهلون من منبع واحد هو تراث الأغنية الصنعانية.. ومن الملاحظ أيضًا أنّ حلقات الطرب هذه كانت تجمع الناس شيبًا وشبابًا.قلت : ما من شكٍ .. إنّ إهدائك لأطروحة الدكتوراه (شعر الغُناء الصنعاني) عام 1969م، قبل ثلاثين عامًا من أول اتفاقية للوحدة اليمنية، والتي جاء فيها _ من ميناء اليمن إلى عاصمتها _ اعتراف ضمني بأنّ الغُناء الصنعاني هو أحد الركائز الأساسية لوحدة الفن الغُنائي اليمني.ولكن .. ألا تعتقد يا أستاذ غانم أنّ هناك خصوصية تميز أداء الأغنية الصنعانية في صنعاء اليوم عما كانت عليه يوم أن عرفتها في عدن؟أجاب : نعم.. هناك فرق، وإن كان بسيطًا.. وقد أسلفت القول إنّ لكل فنان مرموق من الذين أقترنت أسماؤهم بالأغنية الصنعانية أسلوبه المتميز والذي يتجلى في الأداء أكثر ما يكون، كالتحكم في الصوت وطبقاته..ولكنني لا أريد أن أترك إنطباعًا عند الآخرين أنّ الغُناء الصنعاني، الذي اعتبره فننا التقليدي الخالد ونكهتنا المحلية الباقية، يمكن أن يخضع للتشطير!قلت له : الملاحظ .. أنّ شغفك بالأغنية الصنعانية لم يتوقف بنشرك لكتاب (شعر الغُناء الصنعاني) الذي أُعيد طبعه حتى الآن عدة مرات.. ولكنك مضيت لتحقيق ديوان (زمان الصبا) لأحمد الآنسي.. وديوان (صنعاء حوت كل فن) لأحمد المفتي.. فما هو السر لتمييزك لهذين الشاعرين؟أجاب : اهتمامي بهذين الشاعرين يرجع لتفوقهما في فن النظم (الحميني) من خلال اختيارهما المتميز للمفردات الحيمينة.. ويرجع أيضًا لكونهما لم يحظيا بالدراسة التي حظي بها سواهما من فرسان الشعر الحميني.سألته : أشرت بوضوح في كتابك (شعر الغُناء الصنعاني) إلى أنّ الاستنتاجات الشاملة لنشأة وتطور هذا الغُناء ما زالت بحاجةٍ ماسة لدراسات تحليلية من أهل الاختصاص بعلوم الموسيقى..فهل تعتقدون أنّ هذه الثغرة قد سدت الآن بعد أن صار لنا عدد كبير من دارسي الموسيقى في اليمن الواحد؟يقول الدكتور غانم : لا يستطيع أحد أن يقلل من شأن القفزة النوعية التي أحدثتها كتابات (جابر علي أحمد) في مسار حركة النقد الموسيقي في اليمن.. غير أنّ الموضوع يحتاج إلى تضافر جهود فريق من الباحثين في الموسيقى، ليس من اليمن فحسب، ولكن من شقيقاتها العربيات أيضًا، حتى تكون الاستنتاجات أكثر دقةً وشمولاً.أستاذ غانم : يدعي البعض أنّ رياح التغيير في الأغنية اليمنية قد هبت بعنف من الخليج العربي ممثلة في أصوات عبد اللطيف الكويتي وسواه من مطربي الخليج، خصوصًا بعد أن دخلت عدن في عصر الإسطوانات الشمعية والتي حملت هي الأخرى العديد من الأغنيات المصرية الشائعة يومئذٍ.. إضافة إلى وصول الأغاني المصرية عبر موجات أثير الإذاعات وفي الوقت ذاته أدخل المسرح الهندي والسينما الهندية والمصرية فيما بعد تأثيرًا واضحًا في أذواق الشباب في الأغنية، بحيث تراجعت الأغنية الصنعانية لتفسح المجال لهذه الرياح الدخيلة.. هل من تعليق؟لا أريد أن تسجل على لساني أنّ الأغنية الصنعانية يمكن أن تقهر أو تتقهقر في وجه أي لون غُنائي دخيل.. والدليل على ما أقول، إنّ هذه الرياح العاتية التي لا أنكر أنّها أحدقت بالأغنية الصنعانية ما لبثت أن تحطمت على جدار الأصالة المنيع الذي تحتمي به الأغنية الصنعانية منذ القدم.. بل ربما كانت هذه الأصالة الكامنة في الأغنية الصنعانية هي أحد الأسباب الثقافية للوحدة اليمنية.أستاذ غانم .. كنت أنت أول من ينظم كلمات الأغاني بلهجة عدن (الأغنية العدنية) للمطربين الذين نشهد لهم بالريادة في خلق نكهة الأغنية العدنية.. فكيف كانت الظروف التي دفعتك شاعرًا لهذا الاتجاه؟يقول مجيبًا : هي نفس الظروف التي دفعت بالقمندان إلى أن يكتب الأغنية اللحجية وينشرها في دواوين مطبوعة.. وهي الظروف نفسها التي دفعت بسواه في محافظات اليمن المختلفة إلى التعبير الشعري والنغمي عن محلية البيئة هنا وهناك.. وفي هذا في رأيي ما يغري عدوى الإبداع داخل إطار الأصالة اليمنية.بمناسبة ذكرك يا أستاذ غانم للشاعر الملحن القمندان.. سمعنا أنّه لحن على غير عادته شعرًا لك؟يبتسم وكأنّه يستعيد الذكريات.. ويقول : كنّا ضيوفًا في لحج .. دعانا إليها كرم الشاعر والملحن الشهير أحمد فضل القمندان.. وكنت أجتمع به في داره طوال ليالي الأسبوع تقريبًا.. وكان ذلك يدعونا إلى تبادل الآراء في الأدب والشعر.. وحدث أن أدت بنا المطارحات الأدبية في جلساتنا إلى أن أفضيت له بأني قد كتبت قصيدة أنوه بها بصلتنا الجديدة (أبناء عدن ولحج) فطلب مني القمندان أن أطلعه على القصيدة.. وبعد أن قرأها، اقترح أن يلحنها.. فرحبت فخورًا بأن تنال قصيدة من قصائدي اهتمام ملحن عظيم كالقمندان. من كتاب : مبدعون في الذاكرة