قول كالصمت وبرودة دافئة
كتب/جورج جحا كما حقق الشاعر العراقي حميد حداد أمراً يبدو مستغرباً في عنوان مجموعته الشعرية الجديدة “القول بما يشبه الصمت” فقد حقق أمراً مماثلا يبدو غريبا أيضاً، ألا وهو كتابة شعر هادئ إلى درجة يبدو فيها بارداً لكن لا يسعنا إلا أن نشعر بدفء خفي في معظمه.يتحدث حميد حداد عن الحزن والخيبات الكبيرة فلا نشعر بلهب احتراق في شعره ومع ذلك فهذا الشعر ليس رمادا ولا هو بجمر مطفأ. انه حزن هادئ يكاد يكون باردا لكنه ليس ببارد فعلا. وقد يجد البعض في ذلك مأخذا أو نقيصة لكن البعض الآخر سيجد فيه على الأرجح قدرة متميزة على الإتيان بما ليس لهبا حارقا ولا هو رماد يذكر بالثلج.مجموعة الشاعر العراقي حميد حداد الذي يعيش في هولندا جاءت في 64 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن دار الحضارة للنشر في القاهرة. صمم الغلاف الفنان مدحت عبد السميع ونفذه حسام عتر.وقبل البدء بقصائد المجموعة يمكننا أن نأخذ عينة بليغة من شعره حملها غلاف الكتاب. أنها بليغة بمعنى أنها قد تكون نموذجا جيدا في إظهار سمات من هذا الشعر ومنها القول الذي يشبه الصمت والبرودة التي تنطوي على دفء. أنها مأخوذة من قصيدة عنوانها “حديث سيلين”.يقول الشاعر في تصوير منسوج بمجاز وتجريد “حياة قرب سور شائك/ هي نفسها وأنت في الثلاثين تهرم/ تمنح الثياب خوفها/ ما يبرِر تمسكها بالتجوال معي/ او بهبوطها ليلا على نافذتي/ انها دعوة لارتكاب الخطأ ذاته../ لارتكاب الزمن ذاته/ وهو يسيل بعيدا/ ذاك الذي حدثنا عنه سيلين/ سأترك الكف تهوي/ بالدخان الذي تنفسته/ بالأضواء التي تقترب كلما هربت/ محتفظا بعقد اخضر على ذراعي/ وبشباك ضخم ذهبي لامع/ سأترك من يحدثنا عن ألمه النبيل”.يستطيع حميد حداد أن يضفي أحياناً على الحديث بين اثنين وعلى التحليل المنطقي بل الوصف المنطقي الهادئ أجواء شعرية لا تشع حرارة ولا هي باردة والأكثر نجاحا في ذلك أنها لا تبدو حتى “فاترة”.وقد يستفز هذا بعض القراء الذين يسعون إلى الحار الثائر أو حتى الصاخب المدوِي.في القصيدة الأولى وعنوانها “إرهاب” يقول حميد حداد “في آخر الحديث/ كان ثمة شيء لم نتفق عليه/ يتعلق بشخص/ احدنا على الأرجح/ لم نتفق عليه خشية المواجهة/ اذكر أننا كنا نتهرب من/ النظر إلى بعضنا/ رغبة في التواطؤ”.ويكمل هذا العربي الذي يعيش في الغربة فيقول كلاما قد لا يسع القارئ أن يربط بسهولة بين بعض أجزائه “لابأس في الأمر/ لنترك الحديث والنظر معا/ لنفكر بالسيدة التي/ تتهمنا بالإرهاب بنظراتها المتشككة/ لنفكر بإرهابنا/ لأنفسنا/ بالمطلق الهشِ الذي/ يدفع بالفكرة إلى التفجر/ في فراغ الآخرين/ لنفكر بالصمت/ ولو رغبة في التواطؤ”.في “قصيدة هجاء” يبدو الأمر كأن هناك حديثا منطقيا هادئا رغم عمق الموضوع وتفجره وعلاقته بالإنسان وكرامته. يبدو الشاعر كأنه يقرر حقائق مفجعة لكنها تورد ببرود منطقي شبه حيادي. تبحث عن الغضب فلا تشعر به. ترى هل استطاع تدجين غضبه؟ كأن لدي الشاعر “كاتم صوت” غريب يخفي الهدير وحتى الأنين. انه يخفيه لكن يبدو أن كل ما فعله هو انه أخفاه “عن السطح” أو على الأقل هذا “ما شبه” للقارئ.يقول “أن تعرف/ بأنك فارس/ تعرف أيضاً/ بأنك مقتول لا محالة“ قتيل وهذا مجده الناقص/ يرقد إلى جانبه/ مثقلا بستة آلاف عام/.. /أبي/ أيها الوطن/ أنت تربكنا..”.ويستمر قائلاً مخاطباً وطنه بما يبدو اقرب إلى تقريرية هادئة “منذ متى وأنا احبك؟/ لا اذكر/ لا اذكر أيضاً/ متى خرجت/ عن طاعتك”.يضيف قائلاً بما قد يجعل من الصعوبة على القارئ أن يربط بين أقسام كلامه “الشعب يحتمل التأويل/ فلم أنا قلق إذن؟/.. الحكاية تبدأ../ عندما يتهدم جدار الطين/ عندما يدرك الحبل قصر قامته/ يواصل السيارة رحلتهم: ويصمون آذانهم/ عن صراخ البئر”.وفي “عرب” يقول الشاعر في تقريرية منطقية “مطعمة” بمجازات “دع الغريق يكمل دورة الغرق/ فأنت لن تستطيع أن تتألم/ له أكثر منه/.. الصحراء ضاجة بحمقاها/ الحمقى ضاجون بصحرائهم/.../ كلهم صحراء/ حتى الأخضر منهم.../ لا ينبغي لصوتك أن/ يتسرب إلى الخارج/ فثمة قطيع جاهز/ للانقضاض عليه وخنقه/ ها أنت لصق الجدار/ ولا مجال للتراجع أكثر/ وليس سوى أمام بلا عشبة/ كل القبائل تبغي دمك/ عشبتهم أن تموت/ وعشبتك أن تحيا..”.