أضواء
نشرت «الوطن (20/1/1430هـ) تقريرا بعنوان «المرجعية الدينية لأولمرت: اقتل حتى النساء والأطفال» يتحدث عن دراسة «إسرائيلية» تناولت فتاوى بعض الحاخامات الإسرائيليين المتطرفين لتسويغ حرب إسرائيل الأخيرة على غزة. ويزيد من خطورة الأمر، كما يقول التقرير، أن «... أتباع التيار الديني الصهيوني والذين تشير تقارير الجيش إلى أنهم «يمثلون أكثر من 50% من ضباط الجيش الإسرائيلي وأكثر من 60% من قادة الوحدات الخاصة». و»تشير الأرقام الصادرة في الدراسة إلى أن «أكثر من 95% من الجنود المتدينين أكدوا أنهم لا يمكنهم الانصياع لأوامر عسكرية تصدر لهم دون أن تكون متسقة مع الفتاوى الدينية التي يصدرها الحاخامات والسلطات الدينية». ولا مراء في هذه الفتاوى الوحشية هي ما يؤسس للعدوان الإسرائيلي الهمجي المستمر منذ قيام هذا الكيان المحتل.وعلى الرغم من وحشية هذه الفتاوى المتطرفة إلا أنها تمثل، من جانب آخر، فرصة ثمينة يجب على العرب اغتنامها لفضح هذا الفكر المتخلف الذي يخرج خروجا بيِّنا على ما حققته البشرية في كفاحها الطويل نحو رفض التمييز الديني والعنصري والعرقي والدعوة إلى المساواة بين البشر ورفض الحروب وأعمال العنف.وهي كذلك فرصة لا نظير لها إن أراد العرب أن يرتقوا بكفاحهم لهذا الكيان الغاصب إلى مستوى الكفاح الإنساني ضد الأفكار العدوانية المتخلفة التي لا تقيم وزنا للإنسان بوصفه إنسانا، بل تعتدي عليه وتطرده من مسكنه وتدمر حياته وتسلبه حقه في العيش بكرامة.لكن مثل هذه الجهود لمخاطبة العالم من أجل كسب تأييده لقضايانا تقتضي أن يكون خطابنا بعيدا عن مشابهة هذه الفتاوى المتخلفة. ويعني هذا أن أول ما يجب أن يتصف به خطابنا البعدُ عن التعميم. ومما يوجب البعد عن التعميم أن هناك أصواتا يهودية شجاعة كثيرة وقفت في معارضة المشروع الصهيوني منذ بدايته قبل أكثر من مائة عام. ولا يتسع المجال لذكر اليهود الأحرار الذين عارضوا هذا المشروع أو عارضوا نتائجه وأساليب تنفيذه. ويمكن هنا ذكر بعضهم للتدليل فقط. فمن نافلة القول التذكير برائد اللسانيات، نعوم تشومسكي، الذي وجه شطرا كبيرا من نشاطه ضد السياسات الإسرائيلية منذ خمسين عاما. ويضاف إليه مئات، بل آلاف، من اليهود الأوروبيين والأمريكيين الذين يقفون موقفا مناوئا لعدوانية إسرائيل.ومن أشهر أولئك الأستاذ الجامعي الأمريكي نورمان فنكلشتاين، الذي تعرض بسبب موقفه من إسرائيل إلى كثير من الأذى ليس أقله عدم تثبيته أستاذا في جامعته التي درَّس فيها لسنوات طويلة. وكان والدا فنكلشتاين من ضحايا النازية لكنه وقف صامدا ضد استغلال إسرائيل ومناصريها للمحرقة اليهودية من أجل جمع الأموال التي تذهب إلى المشاريع الصهيونية. ويتمثل آخر تجليات مشروعه في فضح الإجرام الإسرائيلي في وضعه بعض الصور التي التقطتها آلات التصوير للجرائم الإسرائيلية إلى جانب الصور التي التقطها المصورون لبعض مشاهد التنكيل المؤثرة التي أوقعها النازيون باليهود. وكانت صور التنكيل النازي بالأطفال والنساء والشيوخ من اليهود أداة فعالة في الدعاية الصهيونية من أجل استجلاب تعاطف العالم معها وقمع أي معارض لما تنفذه من جرائم ضد الفلسطينيين. واللافت أن كل واحدة من صور ضحايا إسرائيل من الفلسطينيين تكاد تكون نظيرا مطابقا لصور اليهود في تلك الفترة. ويمكن الاطلاع على هذه الصور في موقعه على الإنترنت:http://www.normanfinkelstein.com/article.php?pg=11 & r=2510وقد أشار الدكتور السيد ولد أباه إلى بعض هؤلاء المفكرين الغربيين من اليهود في مقال بعنوان “يهود ضد الصهيونية” (الاتحاد الإماراتية، 8/1/1430)، وفي مقاله الآخر “تيار ما بعد الصهيونية” (الاتحاد الإماراتية 22/1/1430).يضاف إلى هؤلاء عدد كبير من اليهود الذين أعلنوا عن معارضتهم الشديدة للفظائع التي قامت بها إسرائيل في الأسابيع الثلاثة التي شنت فيها الحرب على غزة. وقد ظهر عدد كبير من هؤلاء في وسائل الإعلام العالمية المشهورة وكتبوا عشرات المئات من المقالات في الصحف العالمية الكبرى ينددون فيها بالمجازر الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين. ومن أشهر هؤلاء رتشارد فولك، وهو يهودي يعمل ممثلا خاصا للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في المناطق الفلسطينية المحتلة. وقد كتب كثيرا عن التجاوزات الإسرائيلية وأعلن معارضته الشديدة لما تقوم به. وذلك ما أدى إلى منعه من دخول إسرائيل أو المناطق الفلسطينية المحتلة. ويمكن الاطلاع على ملحوظاته ونقده لوحشية إسرائيل قبل حربها الأخيرة على غزة وبعده في مقال كتبه كريس هيجس، بعنوان “شريك في القتل”، Party to Murder، وهو منشور في موقع TruthDig.com.وقد نشرت الصحف الإسرائيلية نفسها مئات المقالات لعدد من الكتاب الإسرائيليين يعلنون فيها معارضتهم الشديدة للمجازر التي ارتكبتها إسرائيل. وكانوا بسبب هذه المواقف الشريفة عرضة لهجاء مقذع تتضمنه تعليقات بعض القراء في تلك الصحف. وكان من أبسط الاتهامات التي توجه لهم أنهم “خونة”، و”يهود كارهون لأنفسهم”، وغير ذلك من الشتائم. ويعرف القراء الكرام بعض هؤلاء الكتاب مثل يوري أفنيري والصحفية المشهورة أميرة هاس التي تكتب في صحيفة هآرتس منذ سنين طويلة. فقد كتبت هاس عددا من المقالات المهمة في الأسابيع الثلاثة الماضية تتبعت فيها تلك المجازر وتعارض التهور الإسرائيلي المجنون. ومن أبرز الكتاب الذين فضحوا ممارسات إسرائيل جدعون ليفي الذي كتب عددا من المقالات الجريئة في كشف المذابح الإسرائيلية وانتهاكاتها غير المحدودة لكل القيم والمعايير الدولية في زمن الحرب. ومن أهم مقالاته “الشفق الكاذب/طبال مختلف” (هآرتس، 8/1/2009)، يصف فيه مظاهر العنصرية المتلبسة بـ”الوطنية” الإسرائيلية.ومن مقالاته المهمة الأخرى “زمن المستقيمين” The time of the righteous(هآرتس، 9/1/2009)، يقول فيه: “تكشف هذه الحرب، ربما أكثر من سابقاتها، عن الشرايين العميقة الحقيقية للمجتمع الإسرائيلي. ذلك أن العنصرية والكراهية تطلان برأسيهما، بالإضافة إلى النزعة للثأر والعطش للدم. إن “ميل القائد” في القوات الإسرائيلية الآن هو “أن تقتل أكثر ما يمكن”، كما يصف ذلك المراسلون الحربيون للتلفزيون. بل إنه حتى إن كانت الإشارة إلى مقاتلي حماس، فإن هذا الميل يظل مُخيفا”. ثم يعرض مظاهر الكراهية والعنصرية في تصرفات الجيش الإسرائيلي في عدوانه على غزة. كما شارك بعض السياسيين اليساريين الإسرائيليين في معارضة الحرب العدوانية على غزة، ومنهم يوسي ساريد في مقال بعنوان “لو كنتَ (أو أنا) فلسطينيين”، هآرتس، 2/1/2009)، ختمه بقوله: “ليس هناك شعوب طيبة أو خبيثة؛ ليس هناك إلا قيادات تتصرف إما بمسؤولية أو بطريقة مجنونة. ثم إننا الآن نحارب أولئك الذين ربما سيشبههم عدد كبير منا، لو كنا في مكانهم لإحدى وأربعين سنة ونصف (من الاحتلال)”. هذا ما نشرته صحيفة إسرائيلية واحدة، أما ما نشرته الصحف الإسرائيلية الأخرى لكتاب معارضين للحرب فلا يقل عددا ولا يختلف مضمونا عن هذه المقالات.ويعني وجود هذا العدد الكبير من المعارضين اليهود للغطرسة والعدوانية الإسرائيليتين أن التعميم على “اليهود” ووصمهم جميعا بمعاداة العرب والفلسطينيين خطأ. أما الواجب فعله بدلا من ذلك فهو أن نكثِّر من عدد هؤلاء المعارضين عن طريق تحديد أعدائنا: فليس اليهود جميعا أعداءنا، بل إن عدونا هي السياسة العدوانية الصهيونية فقط، ويجب أن نكون أكثر حصافة في مخاطبة العالم، خاصة منهم اليهود.لكن المشكل أن هناك إشارات كثيرة في الخطاب العربي أثناء هذه الأزمة تشهد بتشابه بين خطاب المتعصبين من اليهود، ومنهم بعض حاخاماتهم، وخطاب بعض العرب. فمن الرائج الآن أن يوصف اليهود جميعا، في دعاء القنوت وفي غيره، بأنهم أبناء القردة والخنازير، وغير ذلك من الصفات المذمومة.ومن أمثلة هذا التعميم المذموم ما قاله أحد كبار علمائنا، مع الأسف، في إحدى صحفنا الكبرى. إذ يرى صواب سياسة هتلر فيما يخص اليهود. فيقول: “يذكر أن هتلر قال: لقد كنت قادراً على إعدام اليهود قاطبة من جميع أوروبا وروسيا ولكني أبقيت من أبقيت منهم ليعذرني العالم على ما فعلت وليرى منهم وفيهم ما رأيت. ومعذرة العالم له مؤكدة ما قاله عن اليهود من خبث ومكر وفساد وإفساد واستعلاء على البشر...” (الرياض، 19/1/1430). ولا يسع أصحاب الضمائر الحية من العرب إلا أن يستنكروا هذا الموقف الذي يدخل في تأييد الطغاة القتلة وسياستهم الاستئصالية لبعض البشر الذين لا يعجبونهم، ليس لأن هذا هو الصحيح سياسيا وحسب، بل لأنه المتعيِّن أخلاقيا. ويدخل في هذا الخطاب المستنكَر قول خالد مشعل، أحد زعماء حماس، أول ليلة للعدوان الإسرائيلي: “نحن أحفاد الذين يطلبون الموت فتوهب لهم الحياة، أما أنتم فأحفاد الذين لا يحاربونكم إلا في قرى محصنة”.ومثله قول محمود الزهار، وزير خارجية حماس، في ظهوره الوحيد أثناء العدوان: “إن تقتلوا منا طفلا فسنقتل منكم طفلا، وإن قتلتم منا شيخا فسنقتل منكم شيخا... “. وكذلك ما ورد في خطاب إسماعيل هنية قبل العدوان وبعد نهايته مما لا يختلف كثيرا عما يقوله متطرفو الإسرائيليين.إن الخطاب العنصري التعميمي سيجعلنا أشباها للمتطرفين من حاخامات اليهود، ويعزلنا عن العالم ويمنع أصحاب الضمائر الحية من التعاطف مع قضايانا. [c1]* جريدة “الوطن” السعودية[/c]