أضواء
حسن عزالدين في خضم الأحداث المصيرية والمأساوية التي يعيشها العالم عموما ومنطقتنا العربية خصوصاً، صدر خبر لا يقل في مأساويته الدرامية عن مشهد الدم المتجسد في معاناة شعوب فلسطين والعراق وغيرهما، لا بل قد يكون في جوهره مكملاً أو حتى مسبباً رئيساً لها. الخبر يتعلق بما اعترفت به منظمة الأليسكو حول ظاهرة الأمية المتفشية في مجتمعاتنا من أقصاها إلى أقصاها، والتي بلغت مستويات ونسباً خطيرة للغاية وباتت للأسف سمة طبيعية مرافقة للشخصية العربية ووصفا ملازما تتناقله الإحصائيات الرسمية في دول العالم الآخر. وبلغة الأرقام الصادرة عن المنظمة نفسها، فإن كل ثالث مواطن عربي لا يفقه القراءة والكتابة، وان النساء هم الأكثر تضررا من هذه المأساة باعتبار أن نصفهن تقريبا يعانين من الأمية. أما الظاهرة الأخطر في كل ما تقدم فهي أن ثلاثة أرباع الأميين في العالم العربي البالغ عددهم حوالي مئة مليون شخص هم من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والخامسة والأربعين، أي الفترة الزمنية التي قد نتوافق على اعتبارها ذروة العطاء والجهد، والتي من المفترض أن يكون فيها الإنسان منتجا بكل قواه، داعما للتطور والتقدم والازدهار في وطنه، رافدا لمصالح البشرية جمعاء بكل ما تيسّر له من علم ومعرفة وإمكانيات. هذه الأرقام تقدم لنا للأسف حقيقة صارخة بمعانيها وخطيرة في مدلولاتها، مختصرها أن المجتمعات العربية بشعوبها ومسؤوليها لا تبدو متحمسة لتحقيق التقدم المطلوب وفرض التغيير المنشود، بل تؤكد يوميا أنها لن تكون قادرة على الالتزام بالقرارات الدولية الخاصة بمكافحة ظاهرة الأمية، ولن تتمكن بالتالي من خفض أعداد الأميين بمعدل النصف وفق التعهد المصادق عليه في أروقة المنظمة الدولية خلال العام 1990. وإن دلّ ذلك على شيء، فإنه يدل على عجز فاضح في تحمل مسؤولية رفع المستوى الثقافي للمواطنين من خلال تأمين التعليم الأساسي والضروري لهم، لا بل إنه يكشف عورات كثير من الأنظمة التي تدّعي حرصها على مصالح مجتمعاتها فيما هي تمعن للأسف في إبقائها جاهلة ومتخلفة قدر الإمكان. وأعترف صراحة بأن ما استفزّني للكتابة حول هذا الموضوع رغم مرور بعض الوقت على صدور تقرير منظمة الأليسكو، هو أن المعلومات المرتبطة به قد تسلّلت إلى وسائل الإعلام العربية بخجل شديد، فلم تكترث إليه الأقلام كثيرا. ولم تتعامل معه الفضائيات كحدث آني ذي مدلولات خطيرة، مع أنه يعتبر حسب رأيي مادة خطيرة جدا في معانيها العميقة وتستأهل بالتالي كل الاهتمام والتقدير. وأظن أنه لا يمكن لأحد أن ينكر أن الثقافة تعتبر مدماكا أساسيا في مقياس تطور وتقدم الشعوب والأوطان، بينما تشكّل ظاهرة الأمية المرآة التي تعكس نسبة التخلف لدى هذه الشعوب. وبالتالي فإن المجتمع الذي تتوفر فيه الثقافة والعلوم وفق مناهج سليمة ودقيقة، هو بدون شك مجتمع حديث ومتجدد وقادر على مواجهة الصعاب وتحديات المرحلة. أما المجتمع الممعن في تخلّفه، فمحكوم بالفشل الذريع والتراجع السريع، وسيبقى بالتالي غير قادر على بلورة نسيج قوي ومتماسك للنهوض باحتياجات الأمة. ما يثير الدهشة في الوضع القائم، هو أن صدور تقرير بهذا الكم الهائل والخطير من المعلومات لم يؤد إلى الصدمة المطلوبة في العالم العربي بقدر ما أثار شماتة كثيرين في دول العالم الأخرى ممن يشعرون وبفطرة غير مفهومة بكراهية شديدة لكل ما هو عربي. وقد تسنّى لي متابعة بعض ردود الأفعال التي كانت تتناقلها منتديات الحوار المختلفة على شبكات الإنترنت الأوروبية، والتي عكست اشمئزازا واضحا من الوضع التعليمي العربي، لا حرصا منها على حال الأمة بالطبع ، بل لأنها تعتبر هذا الوضع هو مسبب واضح لما تصفه «بالتخلف العربي المنتج لكل التطرف والإرهاب الذي يصدّر إلى العالم في عصرنا الحالي». أمام هذا الواقع المزري أجد نفسي مضطرا للتساؤل عن الطرف المعني أكثر من غيره في تحمل مسؤولية ما يجري من تقصير، في ظل ما نشهده من تناقل لكرة اللهب المشتعلة بين أيدي المسؤولين الحكوميين والتربويين الذين يصر كل منهم على رمي التهمة للآخر. . وما يزيد من فرادة المشهد هو أن هؤلاء المسؤولين يتلذذون بممارسة سياسة «التطنيش» كلما صدر تقرير صارخ مثل هذا، فلا يشعرون بالتقصير ولا بتأنيب الضمير ولا حتى بالضرورة المطلوبة (كأضعف الإيمان) لإجراء مراجعة نقدية ذاتية للسياسة التعليمية القائمة في بلدهم. وإن تحرك ضمير أحدهم ففي إطار محدود لا يخرج عن دائرة الظهور الإعلامي الاستعراضي الذي ملّت منه الشعوب ولم تعد تصدقه بأي شكل من الأشكال. المطلوب إذاً هو وقفة جدية من المسؤولين الرسميين تحديدا، لإعادة تقييم كل مكامن الجهل القائم في خططهم التربوية الأصلية، والاتفاق على برنامج شامل يضمن التعليم المشرف لكل المواطنين دون استثناء، من خلال الإلزام حينا والتطويع حينا آخر، بحيث يصبح التعليم زادا أساسيا يتعود عليه المرء ويعتبره ضروريا لحياته كالماء والكلأ. والمطلوب بالدرجة الرئيسية إخضاع هؤلاء المسؤولين الرسميين أنفسهم لدورات تأهيل مختلفة، انطلاقا من حقيقة أن الثقافة والتأهيل العلمي أمران ضروريان في كل مراحل الحياة ولكل فئات المجتمع مهما اختلف شأنها، فما بالك إن كان المعنيون أصحاب مسؤولية جسيمة يفترض عليهم تحمّلها بكل أمانة وإخلاص. لقد بات ضروريا أن يعي هؤلاء المسؤولين بأن أفضل ما يمكن أن يقدموه لشعوبهم هو التعليم والثقافة، وأن أفضل ذكرى قد تبقى عنهم بعد رحيلهم هي ما يورثوه من علم وتطور للأجيال القادمة، فذكراهم تبقى عطرة ومشعة في ذاكرة التاريخ إذا ما قيست بالإنجازات التي خلّفوها وراءهم، أو تقبع في مزبلة التاريخ إذا كانت مليئة بالقمع والاضطهاد وإنكار حق التعليم. قبل بضعة أشهر شهدت دبي تظاهرة ثقافية عطائية فريدة من نوعها أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وهدفت لجمع المال الكريم من أجل توفير حق التعليم لأطفال العالم الفقراء. وقبل أعوام أقدم الرئيس الشهيد رفيق الحريري على خطوات شجاعة هدفت لتمويل الدراسة الجامعية لعشرات الآلاف من أبناء وطنه، ثم طلب منهم أن يتكفل كل واحد منهم بتعليم شخص آخر. الرجلان آمنا بأهمية التعليم لبناء مجتمعات حضارية متطورة، ولمواجهة تحديات العصر الكثيرة جدا. هذا هو المثال الحقيقي الذي نود أن نفخر ونحتذي به دائما، فعسى الله أن ينعم علينا بمزيد من هذه الأمثال الخيّرة التي لا تفكر بأنفسها فقط بل تجيّر أرواحها خدمة لشعوبها.[c1]*عن/ صحيفة (البيان) الاماراتية [/c]