محمود عبدالرحمن المداوي(يا حزى باحزيلكم ) بهذا الاستهلال (المفتاح) كانت جداتنا .. طيبات الذكر يستهللن "محازيهن" جمع محزاية أو ما نطلق عليه في لغتنا العربية باسم (الحكاية الشعبية) .. وتحديداً الشفهية منها .فمن المعروف للجميع ان الواحدة من هؤلاء الجدات وكما نتذكر كانت تلقي على مسامعنا ونحن اطفال حكايتها الشفهية ـ محزايتها ـ وبلسان المحل الذي ننتمي إليه ، وبأداء شفهي وحركي يرقى إلى أعظم ممثلي المسرح والسينما والتلفزة والإذاعة في عصرنا ، ومن أبرز صفاته السلاسة والوضوح وشفافية الخطاب السردي الشفهي للحكاية ذات المفكرة المرسومة سلفاً من بنات افكارها وفضاءات مخيلتها الخصبة دائماً ذات الحضور متى أرادت ، أو أنها قد اعادت صياغتها مجدداً على ضوء ما خزنته ذاكرتها العتيقة من حكايات يزخر بها موروثنا الشعبي .وكما هو معروف ان خط سير السرد الشفهي من قبل "جداتنا" يمضي تصاعدياً حسب نسق الحكاية وترتيب عناصرها الضرورية اللازمة وبشكل غير مختل في تراكيبه البنائية واطاره وهيكله العام وبعيداً عن حذلقات اللغة وتعقيداتها أو اشكاليات الخطاب السردي المكتوب والمقروء ، وتزامناً مع وتيرة نمو الاحداث وبدرجة رئيسة الشخصية أو الشخصيات الاخرى سواء كانت رئيسة أو ثانوية وكل ذلك يتم بيسر وتلقائية ودون تكلف إذ أنها ترسم لنا منذ الكلمة الاولى التي تتفوه بها غايات حكايتها التربوية والاخلاقية والاجتماعية والتي تساعدنا كناشئة في ادراك كنه مكنونات شخصياتنا ببصيرة عميقة الغور ونافذة ومسيطرة على كل حواسنا بكل عفوية من اجل مواجهة ابجديات الحياة والواقع وتحدياتهما اللاحقة .يقول الدكتور طه وادي (ان الحكاية الشعبية تتميز بكثير من المبالغة في الحكي والوصف والتعبير .. بالاضافة إلى عدم تحديد الزمان والمكان اللذين تدور فيهما الاحداث) "1"وبالطبع فإن "المحازي" ـ الحكايات الشفهية ـ تزخر بها الذاكرة الروائية الشفاهية للشعب اليمني من منطقة إلى اخرى ، وهي تتفق وخصائص محددة تعد من مزايا المنطقة ذاتها كاللهجة والامثال المأثورة وخط سير الحكاية المفعم بالفلكلور الخاص بالمنطقة "المكان" كناتج طبيعي وموضوعي يدل على خصوصيتها الشديدة ، وتراني اعني هنا اسماء وشخوص الحكاية أو مكان حدوثها وهو غالباً له زمانه البعيد او حتى بتعديل طفيف له ضرورته المنطقية والحتمية المتوائم مع سير الاحداث وهذا يحدث أما بالزيادة أو بالنقصان وبينهما يكون الحذف الذي لايغفل هذه الاهمية للخلاصة الاخيرة من " المحزاية" والتي لاتؤثر على غاياتها التربوية والاخلاقية والتي وضعت بعناية في سياق الحبكة الدرامية وبشكل غير متعارض مع ما تهفو إليه ذواتنا الشفافة والحالمة دائماً .لقد اعتمدت "المحزاية" في اليمن شكلاً سردياً مألوفاً ومستأنساًَ ذائقتنا السمعية ، وارتكزت على مبدأ استشارة غرائزنا التي فطرنا بها منذ نعومة اظافرنا ، وتمكنت جداتنا من توظيف "محازيهن" بذكاء عفوي اكسبته تجاربهن وخبراتهن كثيراً من النضج وكثيراً من مقومات القوة ، إضافة إلى تأصيلهن الأهداف التربوية وتجديدهن لافكارهن مع التنوع في اساليبهن الادائية للخطاب الشفهي وفق خط متواز لغايات افضل وعلى نحو ايجابي مؤثر .ان المتتبع الدارس وايضاً العادي لواقع المحزاية .. أو الحكاية الشفهية لايستطيع إلا ان يخرج بنتيجة واحدة وهي انها قد استطاعت ان تمسك رغم عفويتها وتلقائيتها ، استطاعت الإمساك باحكام بكل عناصر بقائها واستمراريتها عبر الاجيال المتعاقبة وإلى حاضرنا الراهن الزاخر بالمنجزات العلمية الهائلة وتقدم الكتابة السردية المعاصرة بكل ضروبها ومدارسها الحديثة .وأمر كهذا بلا ريب بحاجة إلى دراسات وابحاث علمية وادبية رصينة من قبل المهتمين وذوي الاختصاص على السواء .وما يهمني هنا في خلاصة هذه التوطئة أن اضعكم امام أهم مقومات المحزاية كحكاية شفهية عرضت لبعضها سلفاً ، واسمحوا لي ان اعيد ترتيب صياغتها على النحو التالي :أ ) الفكرة القائمة على الخيال الواسع .ب ) الحبكة السردية الشفهية .ج ) ازدواجية واقعية المكان وصبابية زمان الحكاية .د ) شخوص الحكاية "رئيسيون وثانويون " .هـ ) التركيز على قضية اجتماعية او اخلاقية بعينها .و ) الحوار باللهجة المحلية وحشوها بالحكم والامثال الشعبية السائدة في الشعر الشعبي.ز ) توالي احداث الحكاية (تمهيد ـ عقدة ـ حل) .ح) المبالغة في الوصف والتعبير والاداء الحركي .ط ) الخاتمة وفيها الحل وهو دائماً يخدم الفكرة العامة للحكاية .وهنا ملاحظة تتميز بها المحزاية أو الحكاية الشفهية اليمنية أود الاشارة إليها ألا وهي طريقة وضع الراوي أو الراوية مجموعة اسئلة موزعة على مفاصل الحكاية تكون بمثابة علامات فاصلة لبداية حدث بعد نهاية الحدث الأول وكأنها تقسيم فني بارع لاجزاء المحزاية ، وفي هذا تشابه كبير بين هكذا تقسيم والتقسيمات المعاصرة في فن القص الحديث .في طفولتنا رغم البون الشاسع بين النوعين لذلك اخترت نموذجاً روائياً معاصراً لكاتبة يمنية شابة موهوبة هي الاديبة "هند هيثم ".ان اختياري هذا ليس من باب النقد والتحليل وهو مني براء ولكنه كما جاء في عنوان هذه السطور عبارة عن مقاربة وقراءة انطباعية اولى في الخطابين الروائي الشفهي والمكتوب .ثمة نوع من السرد الروائي يستولي عليك منذ الوهلة الأولى للقراءة وفي هذا مقاربة جلية بين هذا النوع من السرد وبين ماقدمنا له عن المحزاية أو الحكاية الشفهية بل تراني لا أبالغ كثيراً اذا قلت ان رواية "حرب الخشب " النص الابداعي الأول للاديبة اليمنية الواعدة "هند هيثم" يأتي في طليعة هذا العذب من السرد الادبي الموسوم بالرواية ، والذي يرتكز على قضية اجتماعية بعينها كقاعدة انطلاق لمجريات احداث الرواية ، فهند هيثم لم تذهب في روايتها تلك إلى ابعد من حدود القرية اليمنية كنموذج مثالي حي يمثل تشابك المصالح الخاصة والعامة لابطال الرواية وتصادمها.والقرية ايضاً تمثل مرجعية مكانية وزمانية لتفاعل الاحداث وتطورها ونمو شخوصها وتفاعلهم في محيط عادة من العادات والتقاليد البالية والتي ما برحت تتحكم في مصائرهم .وأختم قراءتي الانطباعية عن رواية "حرب الخشب " كنموذج اول في مقاربتي بين الرواية اليمنية المعاصرة والحكاية الشعبية بهذه الكلمات عن مقاربة الفعل الادبي الابداعي وقضية الأدب والتي قالها الدكتور لطيف زيتوني في مقدمة ترجمته لكتاب "آفاق جديدة في نظرية الأدب " حيث نجده يقول : "والمقاربة المحسوسة للأدب تكشف ان الأدب لايتعرف من جانب واحد ولا من جهة نظر واحدة فهناك الشأن الاجتماعي والتاريخي والعملي والفني والأدب هو في وقت واحد نظام خاص للتعبير عن الشأن الاجتماعي وتاريخ المفاهيم المتغيرة إلى الكتابة الفنية ، ونتاج فني تنعكس فيه اصداء الصراع بين النظريات ، صراع مستمر بين الولادة والموت ، بين التجديد والتقليد بين حق الكاتب في الحرية والضوابط التي يشكلها الذوق العام واصول الفن" 7.وقد كان لي فيما قدمت خير مثال ، رغم أني لم اتوغل بعيداً في التفاصيل إلا أنني عرضت بفكرة المقاربة بين اصول الحكاية الشفهية ورواية معاصرة لكاتبة ناشئة أن أبين :[c1]أولاً :[/c] أن من لاقديم له فبالتالي لاجديد له ، وانما هو عبث وضياع .[c1]ثانياً :[/c] الفت اهتمام الباحثين والمهتمين وخاصة النقاد إلى ضرورة وأهمية تفعيل النقد الأدبي الجاد ومتابعة النتاج الادبي للمبدعين المعاصرين ومثلهم هنا (هند هيثم) كنموذج كما ان هناك وجدي الاهدل ومحمد الغربي عمران ومحمد القعود وميفع عبدالرحمن ومحمد عبدالوكيل جازم وهؤلاء اسماء لايستهان بها في المعمعة الابداعية للقصة والسرد اليمني والعربي وبحاجة إلى قراءات نقدية لنتاجاتهم.يقول الدكتور شكري محمد عياد : "فالابداع الادبي الجاد وهو يصارع الابداع العلمي البحث عن صعوبته وقدرته يحتاج إلى التقوية به حتى يصل إلى الجمهور ، ويحاول ولو إلى حد ما التأثير المفسد للأدب الرخيص. "8"[c1]هوامش :[/c]1 ) كتاب دراسات في تنقد الرواية ـ أ. د. طه راوي ص152 ) كتاب الادب وفنونه ـ د. عزالدين اسماعيل ص 323 ) كتاب الأدب وفنونه ـ د. عزالدين اسماعيل ص 29 ـ 294 ) مثال فن شكاوى الأدب الفصيح د. علي شكري ص 22 مجلة أدب ونقد عدد مارس .5 ) كتاب الادب وفنونه د. عزالدين اسماعيل ص 316 ) كتاب دراسات في نقد الرواية ـ أ.د. ط ه واري ص427 ) مقدمة كتاب أفق جديدة في نظرية الأدب ترجمة د. لطيف زيتوني ص 18 ) مقال القفز على الاشواك د. شكري محمد عباد ص 32 مجلة الهلال عدد مارس 1990م .
|
ثقافة
مقاربة في حضور الحكاية الشعبية والرواية المعاصرة في اليمن
أخبار متعلقة