صباح الخير
اكتشاف الذات أو اكتشاف العصر الذي تعيش فيه أو المكان الذي تحيا به اكتشاف أقرب الأشياء إلى الإنسان هي أكثر صعوبة من اكتشاف الآخر أو اكتشاف الخارج.. وقديماً قال سقراط: اعرف نفسك..!وإذ نتطلع إلى عدن الماضي والحاضر والذاكرة والمستقبل فإننا نتماهى مع المدينة في زمانها ومكانها اللامتناهيين.نحن الكائنات اليمنية التي لا تستطيع أن تتنفس بدون هواء عدن، وبدون روح عدن، .. نحن البشر الذين نتحول إلى أجزاء صغيرة أو ذرات غير مرئية في كيمياء المكان المتشكل من البحر والصخر والزمن والروح والسماء والكلام.. العابرين في طقوس المدينة وعنفوانها.. السائرين في ظلماتها.. الدائخين في طرقات مزاجها، المتعبين تحت شمسها ورياحها.. الوجوه التي تشكل حيطانها وأبوابها.. مساجدها ومدارسها.. مقاهيها وأسواقها.. شوارعها وشواطئها.. غبارها وبخورها.. عمائمها وعباءاتها.. موسيقاها وحناءها.. ماءها ودماءها.عدن التي تأتي من الدم الأول لابني آدم.. من مفازات الشعر الجاهلي.. من طقوس الكتاب المقدس.. مع السفن التي تمخر البحار حاملة حرير الصين وعاج أفريقيا وتوابل الهند ومسك الجزر الاستوائية... مرفأ العطور واللبان والمر والساج والذهب والفضة والبر والبز.. مرفأ الألوان والألحان والأشعار والأخبار والأهواء والأنواء..مرفأ المسافرين والحائرين، الماكثين والعابرين.. الزهاد والمارقين.. عدن: الباب المشرع أمام التعب الإنساني الخالد.. والرحيل اليمني الأزلي الهاتف في أذن الجوزاء: ياليت عدن..!!كل اليمانين إليها مشت *** أحلامهم .. كل الربى والبطاح مهما ترامى ليل أحزاننا *** أو طول المسعى.. إليها الرواحفي العام 1969م قامت الأديبة والصحفية غادة السمان بزيارة إلى عدن متبعثة من مجلة "الحوادث" اللبنانية كما أتذكر وفيما بعد نشرت الأديبة الشهيرة قصة جميلة بعنوان "الساعتان والغراب" تدور أحداثها في مدينة عدن، والعنوان جاء من مفردات أيامها العدنية: فالساعتان كانتا في معصم الكاتبة، احداهما تشير إلى التوقيت المحلي لمدينة عدن والأخرى تشير إلى التوقيت العالمي، فهل كانت الأديبة ترمز إلى دخول عدن في زمنها الخاص وتوقيتها المحلي ورؤيتها الزمن الذي يتحرك في العالم من حولها.. ربما..!أما الغراب فقد كان ينقر منذ الصباح على نافذتها في الفندق الذي تقيم به في "التواهي" أمام ميناء عدن .. وكان ذلك رمزاً آخر لما أصاب المدينة من شؤم منذ ذلك العام 1986م.. وما أشأم من غراب..!!في أسابيع وصف الصحفي الكبير الأستاذ فضل النقيب السفينة الوحيدة التي رآها تتهادى في ميناء عدن بأنها "تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل" مستعيراً وصف "الأعشى" لصاحبته "هريرة" في مطلع معلقته الشهيرة.وإذا كانت الحال كذلك ـ وهي كذلك بكل أسف ـ في ميناء عدن البحري.. وعدن هي هبة البحر، وتاريخها هو تاريخ الميناء، تاريخ التجارة، والنقل.. والتواصل.. أقول إذا كان هذا هو حال الميناء.. فماذا سنقول عن مطار عدن الذي كان دولياً.. إن الوطن اليمني كله هو في أمس الحاجة إلى إستعادة الدور التاريخي عبر إعادة النشاط التجاري والبحري والجوي لمدينة عدن، التي شكلت عبر تاريخ الوطن جسراً للتواصل ومنارة للحضارة والثقافة.الجميع يتطلع أن يرى مطار عدن مطاراً دولياً حقيقياً مفتوحاً أمام خطوط الطيران العالمية.. وأن يتم تطويره ليكون في مستوى المطارات الحديثة في المنطقة.. بدون الميناء وبدون المطار فإن الحديث عن عدن حديثة أو يمن حديث هو شيء من هباء منثور.* عوض الشقاع