هذه الرؤية الانسانية ، بما لها من مرجعية فنية وعلمية ، التي أكسبته حب المجتمع انبعثت - أيضاً- من أمرين تأصلا بقوة في مكنون شخصيته فكانا المحركين الفاعلين في إثراء وتجذير تلك الرؤية وهذان الأمران هما :برهان أحمد إبراهيم[c1]طبيعة مسالمة محبة للحياة :[/c]إن طبيعة أبي نواس ، المحبة للحياة دفعت به الى قلب مجتمعه ، فإذا به يرصد إشارات النفس البشرية ، ويحتضنها بتنوع فكرها ومعتقدها واختلاف طباعها وأمزجتها ململماً كل تبايناتها بيسر وبملكة نافذة ناقدة ، ثم ينعشها ويزينها ويبهجها بألوانه النواسية الفريدة فيطلقها خياله الظريف لتنم عن رؤية انسانية تعانق الوجود بما يحويه من نقائض وتنوع حتى كدنا لا نعرف لحظة عاشها دون أن يكون له شركاء فيها :[c1]صفو التعاشر في مجانبة الأذى وعلى اللبيب تخير الجلاس [/c]وهذه الطبيعة إنما جبلت على حب الحياة ، لأنها مسالمة لا تضمر عداء ، ولا تكن أحقاداً ، ولا تتبنى عقلية الصراع ، لذلك فقد نأت به عن الحرب والمواجهة ، فاتحة له مسارب الجمال في الحياة :[c1]جعلنا القوس أبدينا xxxxx ونيل القوس سوسانا وقدمنا مكان النيل xxxxx والمطرد ريحانافعادت حربنا أنسا xxxxx وعدنا نحن خلانافهذي الحرب لاحرب xxxxx تغم الناس عدوانا[/c]بل إن هذه الطبيعة الوديعة غالباً ما أفرطت وتجاوزت معنى المسالمة إلى الخضوع والاستسلام بل واستبعاد المقاومة :[c1]هذا الزمان القرودفاخضع xxxxx وكن لهم سامعآ مطيعآ[/c][c1]نزعة التجريب ومتعة الاكتشاف : [/c]حب أبي نواس للحياة ، منحه حصيلة عظيمة من التجارب الحياتية ومن إيمانه بفاعلية التجريب تخلقت لديه أسباب الفن وربما الحكمة أيضاً ولو لم يكن أبو نواس مندمجاً ومنصهراً في الحياة ، عارفاً بأمرها لما إتخذ من التجربة منهجاً للوصول الى حقائق معينة ، لا تحتمل الشك .. فمن التجربة المعاشة تتجلى المعرفة ، وتتحق متعة الاكتشاف : [c1]إني عجبت في الايام معتبر xxxxx والدهر ياتي بالوان الاعاجيب لاتحمدن أمرآ حتى تجربة xxxxx ولاتذمنة من غير تجريب[/c]ولا غرابة إن أكد الشاعر على أهمية التجريب (....... من غير تجريب) فقد كان واحداً من تلامذة ( إبراهيم النظام) أشهر دعاة المذهب الاعتزالي القائل بحرية الإرادة الانسانية ، واختيار الانسان لأفعاله و " بسلطة العقل وقدرته على معرفة الحسن والقبيح ...."(9).ودون شك أن إيمان الشاعر بمبدأ التجربة ومتعة الاكتشاف قد ساعده على تكوين رؤيته الانسانية كما أن ذلك المبدأ ، أكد لديه نزعة التجديد ورفض التأطير في نسق معين لذلك نرى أبا نواس ، يدعو الى ضرورة خوض غمار التجربة أياً كان نوعها ودون النظر لاعتبارات أو حقائق مسبقة لم يصل إليها الانسان بذاته ويستشعرها بكيانه:[c1]لاأذوذ الطير عن شجرة xxxxx قد بلوت اليوم من ثمرة[/c] إذا ما كانت حياة أبي نواس ، غارقة في العبث إلاّ أنها حياة قائمة على التجربة المعاشة التي كانت في أغلبها شديدة القسوة عليه غير أن حصيلتها أعطت لرؤيته عمقاً وبعداً :[c1]قد لبست الدهر لبس فتي xxxxx اخذ الاداب عن غيرة[/c] فالتجريب كان جزءاً فاعلاً في طبيعة أبي نواس لذلك اختاره دون وعي منه ، ليكون وسيلته ومنهجه الذي به يصل الى معرفة الحياة لا سيما وأنه هو من أحب الحياة :[c1]إذا امتحن الدنبا لبيب تكشف xxxxx له عن عدو في ثياب صديق[/c] طبيعة التجريب القائمة على قاعدة معايشة الشيء واختباره عبر تفاعل فكري ونفسي وصولاً لمعرفة أثره ، كان لها دورها الحاسم لا في جانب حياة أبي نواس الاجتماعية بل - أيضاً- في جانب الابداع الفني وبخاصة في بناء القصيدة ، وما دعوة أبي نواس الشهيرة الى التحرر من قيد المقدمة الطللية في الشعر العربي ، إلاّ لأنه - ومن طبيعة التجريب- رأى في الوقوف على الديار وإطلالها تقليداً فنياً قديماً فرضته أحوال واقع قديم زمناً وبعيد مكاناً وبالتالي فهو لا يمت بأية صلة لطبعه الحضري ولبيئته بغداد الوارفة الظلال الرافلة بأشكال وألوان من دعة الحياة ورغدها وسعة العيش ونعيمه ولين الطبع ورقته : [c1]احسن من دارس الدمن xxxxx ومن حمام يبكي على فننومن ديار عفت معالمها xxxxx ريحانة ركبت على اذنفي روضة بالبنات يانعة xxxxx قد حفها كل نير حسن[/c]إذاً كان أبو نواس صادقاً ومحقاً " في الدعوة الى تصوير الشاعر لما يرى على حسب ما يشعر به لا على حسب ما سمع عنه " (10)لذا، لم يتقمص - النواسي- دور الآخر ( أي الشاعر الجاهلي ) بل كان وليد طبعه ، وابن بيئته وأثراً صادقاً لتجربة حياتية عاشها جاعلاً من الشعر وسيلة للتعبير عن تجارب شعورية ، ولذلك ، لم يقبل قهر تلك التجربة بتأطيرها في قالب فني غريب عن تكوينه الفكري والنفسي لا يستلهم جماليات العصر ولا تستجيب له ذائقة المجتمع : [c1]عج للوقوف على راح وريحان xxxxx فما الوقوف على الاطلال من شانى[/c]أبو نواس لا يأمر ولا يؤطر ولا ينظر لأنه في الاصل فنان آمن بأهمية التجربة وبدفع استحقاقاتها مهما كان الثمن وهنا أثمرت لنا تجربته فناً رائعاً لا يختلف عليه اثنان : [c1]تعيبني واي حر xxxxx من الفتيات ليس له ذنوب[/c] منهجه التجريبي أوصله الى نتائج مؤلفة حطمت آماله فأراد كشف عيوب مجتمعه وما يفتقده من معان إنسانيته رغم ما يدعيه من تحضر ولأنه أبو نواس المسالم صاحب الروح الظريفة لم يجد غير السخرية سبيلاً لعرض تجربته الحياتية وتعرية مجتمعه وبيان قبحه : [c1]الحمد لله ألم ينهني xxxxx تجربة الناس عن الناس فامنع النفس هواها فقد xxxxx أذلني للناس افلاس سكت الدهر واحداتة xxxxx حتى خر الدهر على راسي[/c]وكثيراً ما تبرم أبو نواس من عصره وتعجب من أمره وكيف أنه عصر بليد فقد قدرة التقويم وبالتالي لم يكن عادلاً في اعطاء كل ذي حق حقه :[c1] ذهب الناس فاستقلوا وصرنا xxxxx خلفآ في ارادل النسانس كلما جئت ابتغي النيل منهم xxxxx بدروني فبل السؤال بياس[/c]فأبو نواس ، بطبعه الظريف ، وبأصالته الفنية ، جعل من تجربته المريرة المؤلمة مع مجتمعه ، مادة للتندر والسخرية ، وكأنه حكيم يقدم لنا المأساة بقالب كوميدي .. إنها حقاً لكوميديا سوداء ، أكثر قدرة على تجسيد الحقائق المؤلمة :[c1] أريد قطعة قرطاس فتعجزني xxxxx وجل صحبي اصحاب القراطيس لحاهم اللة من ود ومعرفة xxxxx إن المياسير منهم كالمفاليس[/c]إن ذلك النقد وبما يتصف به من دعابة نواسية ، لما كان له أن يكون دون جنون التجريب لدى الشاعر ضمن التجريب ومتعة الاكتشاف تكونت رؤيته تجاه عالمه .أبو نواس ، وإن كان خسر قيمته الاجتماعية ( وفق رؤية معاصريه نقاداً وسلطة ) إلاّ أنه - وهذا الأهم- نال قيمة فنية بفعل كيانه المتميز واستطاع تأكيد ذاته رغم حملة التشهير ، وإن كان قد جسد عصره أصدق تجسيد فإنه - أيضاً- أدان عصره ، وغالباً ما كشف عيوب النخبة الحاكمة لذا كانت السلطة تخشى لسانه :[c1] الآفل لامين اللة xxxxx وابن القادة الساسه إذا ما ناكث سر ك xxxxx أنتفقدة راسة فلاتقتلة بالسيف xxxxx وزوجةبعباسه[/c]تناول ابو نواس سياسة العباسيين بالنقد الساخر من خلال تعريضه بسياسات ولاتهم الظالمة وما تعانيه عامة الناس كقوله في والي مصر ( الخصيب):[c1]خبز الخصيب معلق بالكوكب xxxxx يحمى بكل مثقف ومشطبجعل الطعام على السغاب محرمآ xxxxx قوتا وحللة لمن لم يسغب [/c]وبعين الفاحص ، أدرك أبو نواس بدء تغلغل الوهن في الدولة العباسية وإرهاصات سقطوها مع ظهور صراع الاجنحة في البيت العباسي هذا الصراع الوراثي بين ( الأمين) و (المأمون) كان علامة دالة على بدء نهاية الخلافة فقدم ابو نواس رؤيته القائمة على تحليل موضوعي يستند الى معطيات الواقع السياسي العباسي لكنه تحليل نواسي ظريف يحمل السخرية اللاذعة والروح العبثية : [c1]هاتها جهرآ ودعني xxxxx من أحاديت خرافة ضاع بل ذل الذي عنف xxxxx فيها ياذفافهمثلما ذلث وضاعت xxxxx بعد هارون الخلافة[/c]والخلاصة أن أبا نواس تركيب إبداعي فريد فالفن كان قدره شعراً وحياة كما أنه لم ينعزل عن حياة مجتمعه ، بل مثل عصره أصدق تمثيل مجسداً نقائض ومزايا ذلك العصر فكان الشاعر العابث والشاعر الموسوعي والشاعر الصادق الذي أطلق الثورة الاولى في الشعر العربي ..[c1]الهوامش :[/c]ولد سنة 136هـ وقيل 140هـ وتوفي سنة 195هـ وقيل 196هـ وقيل 197هـ.1- ديوان أبي نواس : دار الكتاب العربي بيروت 1982م تحقيق وضبط وشرح : أحمد عبدالمجيد الغزالي.2- عبدالله بن المعتز : طبقات الشعراء ط 4 ، دار المعارف ، القاهرة 1981م تحقيق عبدالستار خراج ، ص 591.3- محمد رضوان الداية : تاريخ النقد الادبي في الاندلس ، دار الانوار - بيروت - 1986م، ص 260.4- عبدالله بن المعتز : طبقات الشعراء ، ص 202.5- المصدر نفسه : ص 194.6- المصدر نفسه : ص 201.7- المصدر نفسه : ص 194.8- المصدر نفسه : ص 202.9- أحمد أمين : فجر الاسلام ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1996مص 471.10- د. محمد غنيمي هلال : النقد الادبي الحديث ، دار العودة بيروت 1982م ص 57.
|
ثقافة
الجانب الأخر لشخصية أبي نواس 2-2
أخبار متعلقة