في إطار الاحتفالات بالعيد الوطني السادس عشر للجمهورية اليمنية تشهد البلاد هذه الأيام فعاليات سياسية وجماهيرية وإعلامية وثقافية تعكس عمق واتساع العمليات الجارية في المجتمع وما يرافقها من تحولات ومتغيرات تحققت في ظل الوحدة اليمنية بما هي أحد الأهداف الإستراتيجية المحورية للثورة اليمنية (26 سبتمبر و14 أكتوبر).صحيح أنّ الطابع الاحتفالي كان ولا يزال غالباً على هذه الفعاليات ، لكن وجود بعض الندوات العلمية وإن كانت قليلة ومحدودة، يكتسب أهمية كبيرة لصياغة وعي معرفي بأهمية هذا الحدث وأبعاده والدروس المكتسبة منه. والحال أنّ ثمة مظاهر متنوعة للتحولات التي أحدثتها الوحدة اليمنية في مسار تطور الدولة والمجتمع شملت قطاعات الصناعة والزراعة والنقل والمواصلات والطرقات والكهرباء والموانئ والسياحة والاتصالات والعمران والتعليم والثقافة والإعلام ، حيث كانت هذه الحقول ترزح تحت نير التخلف والعزلة الخانقة في ظل النظام الإمامي الاستبدادي، والحكم الأنجلو سلاطيني الاستعماري قبل قيام الثورة التي فتحت طريق شعبنا للحرية والتقدم والوحدة .في هذا السياق يكتسب التحليل الموضوعي لما تشهده البلاد من استعدادات واسعة لاستقبال العيد الوطني السادس عشرأهمية قصوى لإعادة تقويم خبرات ودروس التحولات التي شهدتها بلادنا على امتداد السنوات الماضية التي حفلت بالعديد من صور البطولة والجسارة والإبداع والاستجابة للتحديات ، بقدر ما حفلت وما تزال تحفل أيضاً بالعديد من الأخطاء والنكسات والآلام والتناقضات.مما له دلالة عميقة أنّ الاهتمام بالبحث العلمي كأداة معرفية للتحليل والاستشراف لم يعد محصوراً فقط في إطار مؤسسات الدولة ، بل أنّ الأحزاب السياسية بدأت هي الأخرى تولي اهتماماً لهذا الجانب، من خلال تأسيس مراكز للدراسات والبحوث ، الأمر الذي من شأنه المساهمة الفاعلة في إعادة صياغة المجال السياسي الذي كان وما يزال يعاني من نقصٍ حادٍ في أدوات التحليل المعرفية، وما ترتب على ذلك من تراكم العمليات السلبية في مستوى الوعي والممارسة معاً، من جراء تسطيح وتغييب دور العقل كأداة للتفكير، والإفراط في تعاطي الأيديولوجيا كبديل عن المعرفة العلمية، وصولاً إلى العجز عن اكتشاف واقع بحاجة مستمرة إلى الكشف وإعادة الكشف.لا ريب في إنّ انتشار ظاهرة الندوات العلمية وحلقات النقاش المكرسة لبحث عدد من مصاعب وإِشكاليات التطور في بلادنا، يعد واحداً من أبرز مظاهر التحولات التي حدثت خلال حقبة التغييرات الواسعة التي دشنتها الثورة اليمنية ( 26 سبتمبر ــ 14 اكتوبر ) وزادت عمقا واتساعا بعد تحقيق الوحدة اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990 ، الأمر الذي يؤشر إلى أنّ الثورة اليمنية بدأت تقترب من مهمة صياغة فكر سياسي قادر على الاستجابة لتحديات التحول نحو الديمقراطية والاندماج في العالم المتغير، وتحفيز التفكير الإبداعي وتوسيع نطاقه وآفاقه، وإبراز دور العقل الجدلي النقدي في فهم العَلاقات البنيوية التي تربط بين الفكر والممارسة من جهة، وبين الواقع والبيئة العالمية المحيطة به من جهة أخرى.تأسيسا ً على ذلك بوسعنا القول إنّ الأيديولوجيا هي أكبر عائق في طريق تقدم المعرفة بما تنطوي عليه من فرضيات مطلقة وتصورات نهائية وغير قابلة للنقاش فيما تتطلب المعرفة تعظيم دور العقل النقدي ، وإعطاء اهتمام أكبر لنقد الأيديولوجيا ومراجعتها بصورةٍ مستمرة وتحريرها من الدوغمائية واليقين المطلق والقداسة اللامتناهية والشعارات الشعبوية.ولئن كانت الايديولوجيا تستبعد الوظيفة النقدية الإبداعية للعقل، وتتولى مهمة تنميط الوعي الممارسة انطلاقاً من جهاز مفاهيمي يفترض امتلاك واحتكار الحقيقة ، فإنّ المعرفة تستوجب التفكير انطلاقاً من الفرضية القائلة بوجود جانبين للعقل.. أولهما أنّ الفكر محتوى ، وثانيهما أنّه أيضاً أداة أي عقل يقوم بإنتاج المفاهيم والتصورات ومختلف أشكال التفكير النقدي.يقيناً أنّ خبرة الأعوام الماضية من مسيرة اليمن الموحد تطرح على بساط البحث عدداً من الأسئلة التي تتعلق بسبل معالجة تناقضات ومصاعب التطور.. بيد أنّ أخطر وسيلة للبحث عن أجوبة على هذه الأسئلة هو افتراض وجودها بشكل جاهز في " طوبى الأيديولوجيا " أو " أوهام الميثولوجيا " ، ولا ينحصر هذا الخطر في تيار سياسي وفكري معين ، بل يشمل مختلف التيارات التي تتعاطى مفاهيم وتصورات أيديولوجية أو ميثولوجية جاهزة.يزعم كاتب هذه السطور أنّ الصراعات السياسية السابقة لم تكن في مجملها صراعات بين تيارات فكرية متميزة ، بل أنّها كانت في معظمها صراعات وتناقضات حادة داخل كل منها.. بمعنى أنّها صراعات تغذيها أطر مرجعية متنافرة، تعود جذورها إلى مفاهيم وتصورات جاهزة ومنقولة عن الموروث التقليدي ، أو العالم الخارجي بمختلف سلطاته المرجعية المتناقضة ، الأمر الذي أدى إلى اصابة الوعي السياسي لمختلف فاعليات المجتمع المدني بطائفة واسعة من التشوهات والاختلالات الناجمة عن الممارسات الخاطئة للقوى والاحزاب السياسية القديمة ، إلى جانب الآثار السلبية التي يعاني منها الخطاب السياسي للأحزاب القديمة والمأزومة بسبب النقص الحاد في الجانب المعرفي والعجز المزمن عن التجدد ، وافتقاد القدرة على امتلاك ناصية التعليل العلمي للظواهر السياسية ، وصولاً الى الاخفاق في الصياغة الواقعية للمهام الممكنة التحقيق ، وتجاهل أهمية التسلح بقيم الحوار الفكري والنقاش الموضوعي.ولعل من يقرأ البذاءات السوقية واللغة الهابطة ، والسفاهات المبتذلة والافتراءات الكاذبة في بعض الصحف التي يزعم مجاذيبها ومساطيلها بأنّهم يمتلكون " مشروعاً بديلاً " سيدرك حجم الإفلاس والضحالة في اللاعقل السياسي لأحزاب المعارضة الشمولية القديمة وخطابها الاعلامي الذي لا يزال يرزح تحت تأثير موروث الفكر الاحادي الماضوي .يقينا ان من يتابع ما تكتبه صحف احزاب المعارضة المنضوية في اطار (( اللقاء المشترك )) عن الاحتفالات التي تجري على طريق استقبال العيد الوطني السادس عشر لقيام الجمهورية اليمنية الموحدة ، سيخرج بانطباع ان البلاد تنهار وتتجه الى شفير هاوية سحيقة بسبب الصورة السوداوية التي يرسمها الخطاب السياسي والاعلامي المعارض للأوضاع في بلادنا .والحال ان ما نقرأه على صفحات هذه الصحف يزيد الجاهلين جهلا فوق جهلهم ، وينافس النائحات والندابات في حرفتهن ، ويصادر عن فاقدي الحيلة حقهم في الحلم ويحرمهم من امكانية الاعتصام بحبال الأمل ، وبتأثير ذلك نجد انفسنا من جديد على موعد غير مرغوب فيه مع البقاع السوداء للمشاريع القديمة التي تشوهت سيرتها بأخطاء الفصل بين السياسة والاخلاق !! وحين يفقد الخطاب السياسي والاعلامي المعارض امكانية التحول الى اداة لانتاج المعرفة بالواقع الملموس والآخر المغاير ، يتحول بالضرورة الى نص انشائي دعوي او دعائي لا غرض له سوى التعبئة الخاطئة والتحريض المغرض والتحشيد المدمر ، وما يرتبط بذلك من نزوع لاستخدام اسلحة التكفير والتخوين والتفسيق والتأثيم والالغاء والاقصاء والافتراء ، وغير ذلك من الاسلحة والوسائل التي يؤدي تراكمها الى حروب كلامية ، ثم تولد في نهاية المطاف ثقافة سياسية شمولية ذات منحى استبدادي قمعي .نقلاً عن / صحيفة "26سبتمبر"
موعد مع الأمل وآخر مع البقاع السوداء
أخبار متعلقة