الرازي: الطبيب الإنسان والعالم والموسوعي (2)
[c1]"السيرة الفلسفية"[/c]في كتابه "السيرة الفلسفية"، دافع الرازي عن سيرته الشخصية وعن أسلوب حياة الفيلسوف، ورسم أسلوباً لحياة الإنسان على أساس أن له بعد الموت حياةً فيها سعادة أو شقاء، فعليه أن لا يتبع الهوى الذي يدعوه إلى إيثار اللذات الحاضرة، بل يتبع العقل ويقتني العلم ويستعمل العدل، وهذا هو، كما يقول الرازي، " ما يريده خالقنا الرحيم الذي منه نرجو الثواب ونخاف العقاب". وخلاصة السيرة الفلسفية، هي أن يكون الإنسان في أفعاله مقتدياً بخالقه، عادلاً رحيماً رؤوفاً. أما عن تفصيل هذه السيرة، فإنه يحيلنا إلى كتاب "الطب الروحاني" الذي اقترح عليه الأمير منصور بن نوح الساماني أمير خراسان أن يكتبه ويسميه بهذا الاسم، "ليكون قريناً لكتاب "المنصوري" الذي غرضه في الطب الجسماني وعديلاً له، لما قدَّر الأمير، في ضمه إليه، من عموم النفع وشموله للنفس والجسد"، وأساس ذلك ما كان يؤمن به الرازي من علاقة وثيقة بين سلامة النفس وسلامة الجسد وتأثير الأحوال النفسية في البدن، كما سنرى في بعض معالجاته النفسية. وهو يؤسِّس طبَّه النفسي ـ الأخلاقي على ضرورة استعمال العقل الذي فضَّل الله به الإنسان على سائر المخلوقات، وبه توصَّل الإنسان إلى العلوم والصناعات، وهذا يقتضي أن يكون هو الحاكم في تدبر حياة الإنسان والداعي إلى السيطرة على الهوى في متابعته للشهوات والتحكم فيها بالفكر والروية والرياضة، لأن متابعة الشهوات والتفنن في تحصيلها ينـزل بالإنسان إلى مستوى البهائم. وللرازي رأي في اللذة، وهو أنها ليست شيئاً إيجابياً، بل مجرد راحة من ألم طرأ فكدَّر الحالة الطبيعية، فلا يصح أن يطلب الإنسان من اللذات إلا بمقدار الحاجة، لكي يمارس حياة الفكر والمعرفة. ويهتم الرازي بضرورة أن يتعرف المرء عيوب نفسه، وهذا لا يسهل عليه، بسبب الهوى ومحبّته لنفسه واستحسانه لما يفعل، فلذلك عليه أن يلجأ إلى مربٍّ مجرّب ويبقى تحت إشرافه ليبصّره بإزالة الصفات الذميمة التي تعرض للنفس. ثم يدخل في ذكر أنواع هذه الصفات ويحمل حملة شديدة على ما يسميه "العشق" وهو "بلية" عظيمة لما فيه من ذلّة النفس، والخضوع والاستكانة واحتمال التجني والاستطالة. ويضم الرازي إلى "العشق" ما يسميه "الإلف"، وهو ما ينشأ عن طول الصحبة من كراهة مفارقة المحبوب، وهو "بلية" أيضاً، فإذا انضم إلى العشق تعسر النـزوع عنه، والإلف يزداد مع مرور الأيام ولا يحسَّ به الإنسان، حتى إذا جاء الفراق ظهر على صورة ألم شديد وأذى يلحق النفس. ويوجِّه الرازي نقده اللاذع إلى من يعتبرهم "الموسومين بالظرف والأدب" الذين يعارضون الفلاسفة في سيرتهم، ويزعمون "أن العشق إنما تعتاده الطبائع الرقيقة والأذهان اللطيفة، وأنه يدعو إلى النظافة واللباقة والزينة والهيئة، ويتبعون هذا ونحوه من كلامهم بالغزل من الشاعر البليغ في هذا المعنى، ويحتجون بمن عشق من الأدباء والشعراء والسراة ويتخطونهم إلى الأنبياء"، فيردُّ الرازي عليهم "بأن رقَّة الطبع ولطافة الذهن وصفاءه يعرفان ويعتبران بإشراف أصحابهما على الأمور الغامضة البعيدة والعلوم اللطيفة الدقيقة..."، وهذا لا يوجد إلا عند الفلاسفة، وهو يذكر هنا اليونان، ويلاحظ أن العشق في جملتهم أقلّ مما في جملة سائر الأمم"، فأما الأنبياء، فلا يستجيز أحد أن يكون العشق من مناقبهم وفضائلهم. فإذا سألنا الرازي عن العلاج، فإنَّه يوجّهنا إلى ضرورة الوقاية من المرض قبل وقوعه، "الواجب في حكم العقل... المبادرة في منع النفس وزمها عن العشق قبل وقوعها فيه وفطمها منه إذا وقدت فيه قبل استحكامه فيها، وكذلك في الإلف: الاحتراس منه يكون بالتعرض لمفارقة المصحوب حالاً بعد حال، وبأن يدرج الإنسان نفسه إلى ذلك ويمر بها عليه. ويتحدث الرازي في علاج كثير من الأمراض النفسية ـ الخلقية، مما لا يتسع المقام الدخول فيه، ولكن يحسن أن نشير إلى طريقته في العلاج وأن نذكر بعض الأمثلة: فهو يعمد إلى تحليل الرذائل ويعتبرها "عوارض نفسية رديئة"، كالعجب والحسد والبغض، ويشرح أسبابها ثم يصف العلاج، كما يعالج بعد ذلك كثيراً من "العوارض النفسية السيئة": الغضب، الكذب، البخل، الغم، والشره، وغير ذلك، ويذكر بلايا السكر والجماع... وهو في ذلك يهيب بالإنسان أن يستعمل عقله وأن يستعين بالقوى الرفيعة الشريفة في نفسه على القوى الدنيئة، خصوصاً الشهوانية، وأن يتذرَّع بهمة أولى العزم الذي يتأكد في النفس وتستجيب له كلُّ الميول والرغبات. ولا ينسى هذا الطبيب الفيلسوف أن يحاول دفع الغمّ بسبب الموت، ويقول إن هذا العارض لا يمكن دفعه عن النفس تماماً إلا بأن تقتنع بأنها تصير بعد الموت إلى ما هو أصلح لها مما كانت فيه، وهذا، كما يقول، موضوع يطول فيه الكلام، وهو يحوج إلى دراسة المذاهب والديانات، ويهتم بالكلام مع من يعتقد أن النفس تفنى بفناء الجسد، وأنه إذا كان يخاف الموت فإن خوفه لا أساس له من العقل. وإذا كان الموت لابد منه، فإن الإنسان الذي يفكر فيه لا يزال يلحقه الغم، وهو أنه لكثرة تصوره للموت كأنه يموت موتاً بعد موت كلَّما فكر فيه، فالأجدر به أن يتنـاساه ويتلطف في الاحتيال لدفع الغم عن نفسه. والمهم أنه، بحساب الاعتقاد بمصير وعاقبة بعد الموت، يجب " أن لا يخاف منه الإنسان الخيِّر الفاضل المكمِّل لأداء ما فرضت عليه الشريعة المحقة، لأنها قد وعدته الفوز والراحة والوصول إلى النعيم الدائم". أما الذي يشك في صحة الشريعة، فليس له إلا البحث والنظر، "فإن أفرغ وسعه وجهده غير مقصر ولا وان، فإنه لا يكاد يعدم الصواب، فإن عدمه- ولا يكاد يكون ذلك- فالله تعالى أولى بالصفح عنه والغفران له، إذ كان غير مطالب بما ليس في الوسع، بل تكليفه وتحميله لعباده دون ذلك كثيراً. [c1]كتب الرازي الطبية[/c]يذكر كلُّ من ابن النديم والقفطي أن الرازي كان قد دوَّن أسماء مؤلفاته في " فهرست" وضعه لذلك الغرض. ومن المعروف أن النسخ المخطوطة لهذه المقالة قد ضاعت مع مؤلفات الرازي المفقودة، ويزيد عدد كتب الرازي على المائتي كتاب في الطب والفلسفة والكيمياء وفروع المعرفة الأخرى، ويتراوح حجمها بين الموسوعات الضخمة والمقالات القصيرة ويجدر بنا أن نوضح هنا الإبهام الشديد الذي يشوب كلاً من "الحاوي في الطب" و "الجامع الكبير". وقد أخطأ مؤرخو الطب القدامى والمحدثون في اعتبار ذينك العنوانين كأنهما لكتاب واحد فقط، وذلك لترادف معنى كلمتي الحاوي والجامع. [c1]التعريف بمادة "الحاوي في الطب" [/c]يعتبر كتاب "الحاوي في الطبّ" من أكثر كتب الرازي أهميةً، وهو موسوعة عظيمة في الطب تحتوي على ملفات كثيرة من مؤلفين إغريقيين وهنود، إضافة إلى ملاحظاته الدقيقة وتجاربه الخاصة. وقد كان الرازي دقيقاً إلى درجة أنه أشار إلى مصادره التي استقى منها المعلومات الطبيعية من إغريقية وهندية في هذا الكتاب.واستعان الرازي بمذكراته الخاصة في تأليف كتبه الطبية التي تمتاز بجمال الأسلوب وأصالة المادة، مثل كتاب "القولنج"، وكتاب "المنصوري في الطب"، وكتاب "الجدري والحصبة"، وكتاب "الأدوية المفردة"، وقد وجدت أصولها جميعاً في مذكرات "الحاوي في الطب". ونظن أن بعض الأطباء جمعوا مذكرات الرازي الخاصة معا ـ بعد وفاته ـ وأطلقوا عليها اسم "الحاوي في الطب"، وذلك لما تحتوي عليه من دراسات وافية في كتب الأوائل. كما اهتدى علماء الغرب بنور العلم العربي، فتمت ترجمة هذه الموسوعة الطبية إلى اللغة اللاتينية سنة 1279 م، وعرفت باسم Continens .تُرجِم الحاوي في أوروبا وطبع في إيطاليا عام 1486م، ويعدُّ أضخم كتاب طبع بعد اختراع المطبعة مباشرةً، وقد قسِّم إلى خمسة وعشرين مجلداً بعد أن أعيد طبعه في البندقيّة في القرن السادس عشر الميلادي، وقد ظلَّ كتاب الحاوي للرازي حجة الطب بلا مدافع حتى القرن السابع عشر.وما يدل على أن "الحاوي في الطبّ" لم يكن إلاّ مجموعةً من المذكرات الخاصة، أن القارىء يجد ملاحظات إكلينيكية عن أمراض ووعكات أصابت الرازي نفسه، كما دوَّن الرازي فيها بياناتٍ مفصَّلة عن حالات مرضاه. ومن المعروف أنه كان يؤمن بسرية المهنة، كما ذكر ذلك في كتابه "في محنة الطبيب وتعيينه"، فليس من المعقول إذاً أن يثبت هذه الأسرار في كتاب يعده للنشر ويضمنه أسماء مرضاه من ذكور وأناث، وفيه وصف دقيق لما يشكوه كل مريض، مع بيانات اجتماع مميزة كالمهنة ومكان السكن وسن المريض. يذكر كل من ابي النديم وابن أيى أصيبعة عنوان كتاب "الجامع الكبير" ضمن مؤلَّفات الرازي، ويضيف كلٌّ منهما أن هذه الموسوعة العلمية تتكوَّن من اثني عشر جزءاً، إلا أنهما لا يتّفقان في بيانهما لعناوين هذه الأجزاء، ثم يخطئان فى تعريفهما "الجامع الكبير" بأنه كتاب "الحاوي". وأما الرازي، فإنه يذكر عنوان كتابه "الجامع الكبير" عدة مرات، بل يحدد السنين الطويلة التي قضاها في تأليف هذه الموسوعة الضخمة، فيقول في كتابه "السيرة الفلسفية": "وإنه بلغ من صبري واجتهادي أني كتبت بمثل خطِّ التعاويذ في عام واحد أكثر من عشرين ألف ورقة، وبقيت في عمل "الجامع الكبير" خمس عشرة سنة أعمله الليل والنهار، حتى في ضعف بصري وحدث لي فسخ في عضل يدي يمنعاني في وقتي هذا عن القراءة والكتابة. وأنا على حالي لا أدعها بمقدار جهدي وأستعين دائماً بمن يقرأ ويكتب لي". وفي موضع آخر من كتاب "السيرة الفلسفية"، يذكر الرازي عناوين بعض مؤلفاته الطبية كنموذج لكتبه التي يفتخر بها ويعتز، قائلاً:"وكتابنا في "الأدوية الموجودة" والموسوم "بالطب الملوكي " والكتاب الموسوم "بالجامع " الذي لم يسبقني إليه أحد من أهل المملكة، ولا أحتذي فيه أحداً بعد احتذائي وحذوي، وكتبنا في صناعة الحكمة التي هي عند العامة الكيمياء، وبالجملة، فقرابة مائتي كتاب ومقالة ورسالة خرجت عني إلى وقت عملي على هذه المقالة في فنون الفلسفة من العلم الطبيعي والإلهي". كما يذكر الرازي مؤلفه "الجامع الكبير" في كتابه "المرشد أو الفصول" ثم في كتابه "الأقراباذين المختصر"، وكذلك يذكر الرازي اسم "الجامع الكبير" ست مرات في كتابه (الشكوك على جالينوس)، مؤكدا أن مادة كتابه "الجامع الكبير" أحسن وأوضح وأوفى مما كتبه جالينوس نفسه في كتبه التي ينقدها الرازي."المنصوري": يعد أصغر حجماً من كتابه الأول "الحاوي"، وقد أخذه بنفسه إلى صديقه أمير الريّ المنصور بن الحق. ولكن كتاب "المنصوري" نال شهرة واسعة في الشرق والغرب. طبع المنصوري في إيطاليا لأول مرة في عام 1481م، وأعيد طبعه عدة مرات، وترجمت أجزاء منه إلى اللغات الفرنسية والألمانية، ويقع في عشرة مجلدات، ويعد مدخلاً إلى الطب، وقد قسمت أجزاؤه العشرة كما يلي:ـ مدخل في الطب، شكل الأعضاء، تعريف مزاج البدن، في قوى الأغذية والأدوية، في حفظ الصحة، في الزينة، في تدبير المسافرين، في صناعة الجبر والجراحات والقروح، وفي السموم، في الأمراض الحادثة من القرن إلى القدم، وفي الحميات.(عن موقع سماحة العلامة المرجع: السيد محمد حسين فضل الله)