بعد (45) عاماً من المنع بمقتضى فتوى أزهرية في عهد عبدالناصر
القاهرة / متابعاتنزلت الى الأسواق المصرية رواية «أولاد حارتنا » لنجيب محفوظ، بعد اعتقال رمزي بدأ في مصر منذ نشرها مسلسلة في جريدة الأهرام عام 1959 . ويرى الكثير من المراقبين ان السماح بطباعة الرواية في مصر يعد بمثابة إفراج اقترن بمقدمة للكاتب الإسلامي أحمد كمال أبو المجد بهدف تغطية واقعة الاعتقال التي تسبب بها الأزهر، الأمر الذي يشير الى ان ثمة تسوية توفيقية استهدفت إعادة الإعتبار للرواية التي منع الأزهر نشرها وتوزيعها في مصر قبل 45 عاما مع الحفاظ في الوقت نفسه على ماء وجه الأزهر كمؤسسة دينية رسمية .وأثار صدور الرواية في مصر بمقدمة من كاتب اسلامي كبير ومعروف باعتداله ورفضه للفكر المتطرف جدلا كبيرا في مصر حيث ان ثمة نقاداً يرون ان عملية إعادة الإعتبار للرواية وقعت في مأزق لا يقل عن المأزق الذي وقع فيه الأزهر عندما منع طباعة الرواية في مصر لكن قراره لم يؤثر على طباعتها عدة مرات في خارج مصر ووصول عدد النسخ منها الى أكثر من مليون نسخة وترجمتها الى عدة لغات في سابقة خطيرة كشفت هشاشة قرارات التحريم والمنع .ويعيد منتقدو قرارإعادة الاعتبار لرواية (( اولاد حارتنا )) مقرونا بمقدمة لكاتب اسلامي تحفظاتهم على اسلوب الافراج عن الرواية الى قناعتهم بان هذا الاسلوب من شأنه ان يكرس معيارا خطيرا وهو ان حجب النصوص الخلافية اذا تم بدافع ديني، فانه ينبغي تقديم دليل البراءة بالدافع نفسه أيضا، مشيرين إلى أنه في كل زمان ومكان جرى التفريق بين النصين الديني والأدبي، وهذا التفريق الذي اتفق عليه المسلمون الأوائل (في سياق تحليلهم النقدي للعلاقة بين الشعر والدين) لا يسمح بتجاوز الحدود بينهما، أي ألا يمارس أحدهما سلطته على الآخر. الأمر الذي يفسر دائماً الوقوع المستمر في الخلط، وعدم التمييز، وسوء التفسير، وما يترتب على ذلك من ازدواجية المعايير، وتداخل مجالات الهيمنة، والنزوع إلى مصادرة شيء بشيء آخر. وبحسب منتقدي اسلوب إعادة الإعتبار لرواية (( اولاد حارتنا )) تعتبر رواية «أولاد حارتنا» نموذجا دالا على هذا الخلط، فقد منعت الرواية بذريعة دينية، وأبيحت بالذريعة نفسها، وهذا لا يكشف أي خطأ في القيمة الأدبية للرواية، ولا يكشف أيضا أي خطأ في قيمة الموقف الديني، ولكنه يفضح الطريقة الانتهازية للتصرف بالنصوص الأدبية والدينية، فإذا راق للبعض أن يمنعوا شيئا فأنهم يلوذون بالدين لمنعه، باعتباره القوة الكاسحة للمنع في أذهان العموم، وإذا رغبوا في إباحة شيء يلوذون بالدين أيضا، ويستغلون قوته لصالح مواقفهم وأفكارهم، وهو تلاعب بالموقف الديني ينبغي الترفع عنه، فصيانة النصوص الدينية من الانزلاق إلى خارج مجالها أمر على غاية من الأهمية، والزج بها في معمعة المصالح اليومية، والنزاعات العابرة، ووجهات النظر الخلافية الضيقة، ليس مفيداً لها على الإطلاق، بل يلحق بها ضرراً بالغاً، لأنه يسلبها قيمتها الرفيعة، ويدفع بها في موقفين متناقضين في وقت واحد. كما يرى منقدوا اسلوب اعادة الاعتبار لرواية أولاد حارتنا ان استخدام الدين على هذا النحو البرجماتي يؤجج العامة (الذين ينعقون وراء كل ناعق) كما قال أحد كبار الصحابة، ويدفع بهم لاتخاذ مواقف انفعالية متهيجة، ضد كل ما يحتمل أن يكون له أكثر من تأويل، أو تفسير، مع الأخذ بعين الاعتبار إن النصوص الأدبية الثرية هي التي تحتمل ضروبا متعددة من التأويلات، وإن استخدام الدين خارج مجاله يدمغ النصوص الأدبية بالدونية والقصور، وفي جميع الحال، فإن اللجوء إلى هذه التحيزات المسبقة يلحق ضرراً متساوياً بكل من الدين والأدب. ولم يخف الكثير من منتقدي اسلوب الإفراج عن (( اولاد حارتنا )) اعتراضهم على وصف الطبعة المصرية الجديدة من الرواية بأنها «الطبعة الشرعية» ، واعتبروا هذا الوصف إساءة بالغة أخرى لكل من مفهوم «الشرعية» ومفهوم «الرواية» ومايترتب على ذلك من الوقوع في الخطأ مجددا ، فقد تم وصف الطبعة الجديدة التي صدرت في القاهرة مؤخراً بأنها «شرعية» لأن كاتباً إسلامياً كتب مقدمتها الجديدة بعد أكثر من 45 سنة من صدورها، وبعد أن زادت طبعاتها اللبنانية والمغاربية الفاخرة في دار الآداب ودور النشر في المغرب العربي على خمسة عشر طبعات وبلغت النسخ المطبوعة منها اكثر من مليون نسخة بعدة لغات ، وبعد أن كتب عنها مئات النقاد كتباً ودراسات ومقالات في معظم اللغات الحية في العالم، وبعد أن ورد عنها تقرير خاص في تقرير جائزة نوبل حينما حازها نجيب محفوظ في أكتوبر من عام 1988، وبعد أن تراكم حولها تراث ندي يتألف من آلاف الصفحات. بعد كل هذا يأتي القول إن الطبعة الجديدة هي «الشرعية» وبذلك تكون سائر القراءات والكتابات السابقة «ضالة» ، بحسب منتقدي هذه الطبعة الذين اعتبروها مجافية للمسؤولية الأخلاقية، واحترام التاريخ، واحترام القيمة الفنية للرواية، واحترام المتلقين، فهي تصادر على الآخرين حقهم في قراءة الآثار الأدبية الكبيرة وتحليلها، فالقول إن هذه الطبعة هي الشرعية يجعل القراء يربطون بها قيمة الرواية، ومن ثم فالقراء والنقاد والباحثون الذين شاء حظهم العاثر في عدم الاطلاع على الطبعة «الشرعية» ، قد سقطوا في الضلالة، لأنهم لم يطلعوا على نص شرعي، إذ لم يتح لهم سوء حظهم أن يعاصروا الطبعة الذهبية التي يكمن فيها الخلاص. لقد سقطوا في خطيئة الاطلاع على نص غير شرعي. ويواصل المنتقدون اعتراضهم على هذا النمط من التفكير لأنه - بحسب وجهة نظرهم - يزج مرة أخرى، وبعناد جاهل، قضية الأدب في خضم القضية الدينية، وهو لا يقل خطأ عن مصادرة الرواية في ظهورها الأول في الأهرام، فإذا كان الأزهر مارس نفوذاً دينياً وحال دون طبع الرواية في مصر على أساس تفسير استأثر آنذاك باهتمام القائمين على المؤسسات الدينية والسياسية والثقافية في مصر، أما وصف الطبعة الجديدة بالشرعية فانه ينقل المسألة إلى ما هو أكثر خطأ، بعد ان وصل الحال بالذين وقفوا خلف قرار المنع قبل نحو نصف قرن على صدور الكتاب، أن يبيحوا أو يحرموا الكتب بناء على طريقة طبعها، ودار النشر التي تقوم بها، وكاتب المقدمة لها، الأمر الذي تتوارى بسببه قيمة الرواية، حيث يصبح القراء أمام طبعة شرعية، وذلك شأن يتصل بمدّ فكرة الشرعية إلى قضية الأزياء، والعلاقات، والفنون!وبحسب المنتقدين فقد جرى خداع القارئ الذي أشاح بوجهه عن الرواية بناء على حظر ديني، وسينكبّ عليها الآن القارئ نفسه - ربما - بناء على إباحة دينية، حينما وصفت طبعتها بالشرعية. وهذا أمر يصعب احتماله في أي مسؤولية ثقافية. ويعيد المنتقدون إلى الأذهان أن الفتى الذي طعن نجيب محفوظ في رقبته ساعياً إلى ذبحه بتهمة كونه كافراً لم يقرأ الرواية كما اعترف بنفسه، إنما قيل له أنها تتعرض لتمثيل أشخاص الرسل والأنبياء، فقد تلقى أمراً بأن يقتص من المؤلف امتثالاً لتفسير ذهب إلى عدم شرعية الرواية، وها هو الآن يقع العكس، حيث ينبغي على الفتى نفسه - أو أحد أضرابه - أن يسارعوا لاقتناء الرواية نفسها لأنها أصبحت شرعية. هذه هي محنة الموقف الحر في عصر التفسير الضيق المتحيز لكل من الدين والأدب، التفسير الذي يمنع ويسمح، ويحرم ويحلل، ويحظر ويبيح، دون الأخذ بالحسبان أثر ذلك على ملايين القراء والمتلقين الذي يحجمون بناء على أوامر المفسرين، ويسارعون بناء على أوامرهم أيضاً. ويرى بعض النقاد في مصر ان المفكر الاسلامي كمال ابو أبوالمجد أوقع نفسه في هذه الاشكالية الخطيرة في المقدمة الجديدة للرواية، فقال معللاً سبب نشر الرواية في طبعتها الجديدة «طرأت فيها على حياتنا الثقافية والسياسية أمور جسام، ازدادت فيها تجاربنا الفردية والجماعية ثراء وتنوعاً، وأحاطت بنا على مر شهورها وأيامها، أحداث وتطورات كبرى، داخل مصر، وعلى امتداد عالمنا العربي وامتداد الدنيا كلها، تغيرت بسببها نظرتنا إلى كثير من أمورنا الخاصة وأوضاعنا العامة، ووقف بسببها كثير منا من نفسه وأمته موقف المراجعة والتأمل، والمجاهرة بالنقد لما يستحق النقد من أوضاعنا، كما ارتفعت نبرة المطالبة بالاصلاح السياسي والاجتماعي والثقافي، وانقدحت - بسبب ذلك كله - شرارة حوار بدأ ثم تصاعد، ولايزال دائراً بين جماعات الكتاب والمفكرين والباحثين ممن يطلق الناس عليهم »النخبة المثقفة « التي تفكر للمجتمع كله، وتطرح بين يديه قضاياه وهمومه، وتشتغل معه بطموحاته وتطلعاته وآماله في الغد القريب والمستقبل البعيد».وبحسب منتقدي (( الطبعة الشرعية )) فإن التفكير باصدار الطبعة «الشرعية» يـُفهم منه انه جاء استجابة للمطالب الإصلاحية، ولا يمكن أن نفهم - بالمقابل - إلا بأن المنع كان استجابة لنوع من الاستبداد. وهكذا جاءت الإباحة في ضوء الإصلاح، فيما كان المنع قرين الاستبداد، وفي الحالتين تم استبعاد النص وقيمته (وبالطبع استبعاد المؤلف والقراء) وجرى فرض تفسير يقول بالمنع، وآخر يقول بالإباحة. ولكي يكمل أبوالمجد حسن صنيعه، انتهى إلى القول «هذا المقال هو عندي شهادة أرجو أن أدرأ بها عن كتابات نجيب محفوظ سوء فهم الذين يتعجلون الأحكام ويتسرعون في الاتهام، وينسون ان الإسلام نفسه أدرج كثيراً من الظنون السيئة فيما دعا إلى اجتنابه من آثام، كما ادرأ عن تلك الكتابات الصنيع القبيح الذي يصر به بعض الكتاب على أن يقرأوا في أدب نجيب محفوظ ما يدور في رؤوسهم من أفكار، وما يتمنون أن يجدوه في تلك الكتابات، مانحين أنفسهم قوامة لا يملكها أحد على أحد، فضلاً عن أن يملكها أحد منهم على كاتب له في دنيا الكتابة والأدب ما لنجيب محفوظ من القدم الثابتة، والتجربة الغنية، والموهبة الفذة النادرة التي أنعم بها عليه الله».وبحسب منتقدي أسلوب الإفراج عن رواية «أولاد حارتنا» يكون نجيب محفوظ قد تعرض مع روايته لظلم الإتهام بالخطيئة بناء على تقرير رجل دين من الأزهر في نهاية الخمسينيات، ونال براءته بعد زهاء خمسة عقود على يد كاتب ديني آخر، فهل نحن بإزاء تغيير في مضمون النص ودلالته، أم بإزاء تضارب التفسيرات الدينية حوله؟