أفكار
يرحل العمالقة واحداً إثر الآخر في عالمنا العربي فتتألم. لكن ألمكَ يتضاعفُ حين ترى كيف يحصل هذا في نفس الوقت الذي يتكاثر فيه ظهور الأقزام. يرحل العمالقة ويتركون وراءهم ملايين وملايين، تُصبح تدريجياً كالأيتام على موائد اللئام.يُغادرون هذه الدنيا فتختفي مع رحيلهم قدوةٌ أخرى لايجود الدهر بمثلها إلا بين حين وآخر. ويغيبُ مع غيابهم نموذجٌ في العطاء والعمل الموسوعي المنهجي الشامل لايعرف الحدود.لامعنى هنا للتعريف بالراحل بطريقةٍ تقليدية. لامعنى للكتابة عن سيرته الذاتية، ولا عن شهاداته وكتبه ودراساته ومشاريعه وإنجازاته. فأي منصفٍ يريد معرفة الرجل يستطيع أن يقرأ عنه الكثير بكبسة زر. يكفي أن تكتب اسمه (عبد الوهاب المسيري) على محرك (غوغل) للبحث، فتظهر 95300 صفحة يمكن لك أن تجد فيها كل شيء.كل مايمكن فعلهُ هنا هو تسليط الضوء على نموذج مُفتقدٍ في العالم العربي هذه الأيام على وجه الخصوص. نموذجٍ يعرف معنى أن (يوجد) إنسانٌ في هذه الحياة. نموذجٍ يُدرك قيمة ذلك الوجود من باب التكريم والتشريف، ومن مدخل المسؤولية والتكليف، ويؤمن بحجم الكمون الذي يملكه فردٌ واحدٌ من بني البشر ليجعل هذا العالم مكاناً أفضل. لكنه قبل هذا وبعده، يعلم حجم الجهد الذي يجب أن يبذله للارتفاع إلى ذلك المستوى. هناك. حين يصبح المرء تجسيداً عملياً لأرقى مافي الإنسانية الجميلة من سحرٍ وتألقٍ وإشعاع.عرف الرجل أن الحياةَ موقف. وأن جوهر هذا الموقف يتمثل في أن يكون لديك (مشروعُ حياة). وبما أن الرجل كان مفكراً وباحثاً أكاديمياً بالدرجة الأولى، فقد سخّر حياته لمشروعين.أدرك أولاً أن العلاقة مع الغرب كانت وستبقى محوراً من محاور وجود أمته، فعمل لسنوات وسنوات في هذا المجال. درسَ الفلسفة والأكاديميا الغربية من زمن أرسطو وأفلاطون إلى يومنا المعاصر. تعرّف بعمقٍ وشمول إلى جميع المدارس الفكرية التي ظهرت في أوروبا وأمريكا. تابع تطوراتها، وعرف رموزها، وناقش فرضياتها وأسئلتها وتفاصيلها الأخرى. ونتيجةً لهذا كله، أنجزَ دراسات ضخمة لتحرير القول في هذا الموضوع فلسفياً وعملياً، تحرّى فيها أقصى مايمكن للمرء من الموضوعية والشمول. ولو أنصفت الأمة، ولو كانت من تلك الأمم التي يعرف صناع القرار فيها كيف يستفيدون من عطاء علمائهم، لأصبحت تلك الدراسات محوراً رئيساً ينظم العلاقة مع الغرب على كل صعيد.لكنه أدرك من جانب آخر أن العلاقة مع إسرائيل ستظل هماً مقيماً لأمته ولهذا العالم في كل مجال. فأمضى خمسة وعشرين عاما من عمره يبحث ويكتب في الموضوع حتى تبلورت الرؤية في عمله الضخم (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد). لم تكن مقاربةُ الرجل العالِم للموضوع مقاربةً تقليدية على الإطلاق. بل قدم تحليلاً فلسفياً وتاريخياً معمقاً أراد من خلاله مساعدة قومه والعالم، واليهود أنفسهم، على أن يفهموا الظاهرة المعقدة بأقصى مايمكن من الموضوعية. ويبدو في هذا المجال أيضاً أن عقوداً ستمرّ قبل أن يتمكن هذا العالم العربي الحزين من استخدام الفهم المذكور للظاهرة على طريق التعامل معها.لكن غرق الرجل في اهتماماته البحثية لم يحاصر كمونه الإنساني على الإطلاق. فقلائلٌ في هذه الدنيا أولئك الذين يدركون حجم هذا الكمون، ويعيشون نمط حياةٍ يرفعهم لملامسة آفاقه الشاسعة. لهذا، عاش الراحل حياته بالطول وبالعرض. فسافر وأحبّ وضحك وكوّن الصداقات وكان رجل عائلة. بل وكتبَ بشكلٍ أو بآخر في الفن والموسيقى والأدب وحتى في مجال الكتابة للأطفال.. ثم إنه أدرك ضرورة العلاقة بين العلم والعمل وبين النظرية والتطبيق، فشارك في مشاريع التغيير كلما سنحت له الفرصة. كان آخرها عمله، مع شدة مرضه، كمنسقٍ عام لحركة كفاية التي تهدف للتغيير والإصلاح في بلده بعيداً عن العنف والإرهاب وقوة السلاح..وأمثالُ هؤلاء يمتلكون عزيمةً حديدية. لهذا، لم يخفّف المرضُ الخطير على مدى أكثر من عشرة أعوام من إرادته في العطاء. فأصبح غزير الإنتاج في هذه الفترة بالذات، وكأنه يسابق الزمن ليقدم للبشرية مايستطيع. والمفارقةُ أن روح المسؤولية تتلبس هؤلاء بشكل غريب. فما إن شعر الرجل بملامح مرضه وهو في الثامنة والخمسين، أي منذ اثني عشر عاماً، حتى قام برسم خطة عمل يتابعُ من خلالها تلاميذهُ كتابةَ وإخراج مشاريعه بشكلٍ دقيق، من خلال تحديد الواجبات والوظائف والخطوات التي يجب القيام بها في حال وفاته لإخراج تلك المشاريع الهامة إلى النور!.. وهاهي ذي تلك المجموعة الوفية تتفق على الاجتماع الأسبوع القادم لمتابعة الرسالة..سمعتُ عن عبد الوهاب المسيري من قرب لأول مرة منذ أكثر من عشرين عاماً. فقد أقامت له هيئةٌ علميةٌ محترمة في أمريكا حفلاً تكريمياً حضره حشدٌ من المفكرين والأكاديميين والفلاسفة الأمريكان وغيرهم. قدّمَ المسيري قبلَ كلمته أكاديميٌ أمريكي مخضرم ثم بدأ العالمُ العربي الكبير حديثه، وقدّمَ في أقل من ساعة من الزمان رؤيةً محبوكةً بمهارة لرحلة تطور الفلسفة الإنسانية والأكاديميا الغربية منذ أيام الإغريق واليونانيين، وتعرّض خلال عرضه المُتقن لكثيرٍ من جوانب تلك الرحلة بالإطراء أو الانتقاد حسب مقتضى المقام. بعد أن أنهى الرجل كلمته سادَ الصمتُ لبرهةٍ في القاعة، وكان المفترض في الأكاديمي الذي قدّم المسيري أن يناقش كلمته، لكن الرجل قال بعد لحظات من التفكير: لاأستطيع أن أناقش مثل هذه المداخلة إلا بكلمة واحدة (واو)، وضجت القاعة بعدها بالتصفيق!يرحم الله عبد الوهاب المسيري. عرف الآخرون قدره وقيمته. لكنه لو استطاع أن يبحث عن خبر وفاته في الصحف القومية لما وجده في بعضها، أو لوجده خبراً لايتعدى سطرين هامشين في بعضها الآخر..[c1]* صحيفة (المصريون) المصرية[/c]