قصة قصيرة...
طوى الصفحة التي كان يقرأ فيها منذ بضع دقائق ووضع الكتاب جانباً ولم يعد إليه! وخطر له أن ينزل إلى الشارع ويمشي وسط الناس لعله يجد بينهم من يعرفه،فقد كان يشعر بوحدة قاتلة في تلك الليلة.كان يريد أن يتكلم... كان يبحث عن أذن تصغي إليه وتتعاطف معه أو تسمع شكواه.. كان يبدو حزيناً مكتئباً في وحدته.. ولكن على غير جدوى..لقد بدا الشارع الذي طالما التقى فيه بعشرات من أصدقائه وكأنه قد خلا من كل رجل تربطه به علاقة من قريب أو من بعيد!وطالت وقفته.. وبدأ يحس بالتعب..فقرر أن يعود من حيث أتى.. أحس في تلك اللحظة برغبة شديدة في أن يلقي بجسده وبرأسه المتعب على فراشه وينام.. معنى هذا أنه سيعود إلى البيت الذي تركه منذ ساعات قليلة مضت،هرباً من الوحدة والهواجس في بحر ليس له قرار!ووجد نفسه فجأة يرفض فكرة العودة إلى البيت: (لا ليس الآن..لن أعود إلى هذا الخواء وذلك السكون.. لم أعد أطيق الحياة في البيت الذي تحول إلى مجرد أشياء جامدة لا روح فيها.. هذا المكان الجميل الذي قضيت فيه أجمل لحظات حياتي.. وأنا سائر في الطريق إلى قمة جبل النجاح مع أبنائي وزوجتي قد تحول اليوم إلى صحراء جدباء... فقد تركوه جميعاً وذهبوا”.لقد كان يعلم أن الذي بينه وبينها قد انتهى ولا سبيل إلى إعادة عقارب الساعة مرة أخرى إلى الوراء..لم يكن الذي يشغله في تلك اللحظة البحث عن وسيلة لإعادة بناء ما تهدم بعد أن تحول كل شيء في البيت الذي كان يمكن أن يكون سعيداً،إلى ركام وأنقاض... ولكنها الحياة الجديدة التي سوف يعيشها وحده وسط هذا الحطام... هل يستطيع أن يبدأ من جديد؟هل يمكن أن يعثر على امرأة أخرى ويتزوجها وينسى معها تلك السنوات الطويلة التي أمضاها مع زوجته التي تركت له كل شيء وذهبت؟هل يمكن أن يطوي تلك الصفحة من حياته،تماماً كما طوى معها الكتاب وصمم على ألاّ يعود إليه مرة أخرى..؟ كانت هذه الأسئلة تلح عليه وتستبد به.. وهو مستغرق في تفكيره على المقعد الصغير داخل سيارته... ولكنه لم يشعر أبداً انه استطاع أن يصل إلى إجابة على أي من هذه الخواطر التي مرت برأسه.لقد استبعد فكرة العودة إلى بيته تماماً،ولم يشأ أن يحاول لأنه كان يعرف ماذا ينتظره في البيت الذي احتضنه هو وأسرته الصغيرة سنوات طويلة.. لقد غربت شمس الحياة عن البيت الذي كان كل شيء فيه يشيع الدفء وينبض بالحياة!وفي الغرفة الصغيرة التي استأجرها في الفندق القريب من البيت أغمض عينيه ونام..ولكن صور أطفاله لم تبرح مخيلته لحظة واحدة حتى في نومه المضطرب... نام هذه الليلة وهو الذي أمضى ليالي كثيرة يحاول أن يغلب الأرق فيغلبه.وقبل أن تسوء العلاقة بينه وبين زوجته بسنوات وسنوات فقد كان كثير الأسفار وحيداً بلا رفيق يؤنس وحدته..وكان يهم بعمله.. فقد حدد لنفسه..هدفاً في الحياة ضحى من أجل بلوغه بكل شيء.. بأسرته وبيته وبصحته.. كان هدفه الذي ضحى بهذا كله من أجل بلوغه هو جمع المال ومزيد من المال.. فقد عاش حياته محروماً ضائعاً لا يعرف من أين يبدأ ولا في أي طريق يسير.. فلما وجد نفسه يقف عند بداية الطريق التي ستوصله إلى هدفه نسي نفسه ونسي الدنيا كلها.وعندما امتلأ جيبه بالمال،وأحس بأن الأمنية التي عاش حياته من اجلها أصبحت حقيقة تدعمها الأرقام الخيالية التي فاقت كل توقعاته،وقف ينظر حوله،فلم يجد شيئاً.. لقد فقد كل شيء في غمرة حماسه وجريه وراء المال..فقد نسي زوجته التي وقفت بجانبه أيام فقره وضياعه،وراحت تفكر معه وتخطط له حتى استطاعت أن تضعه على بداية الطريق الذي أوصله إلى ما هو عليه.وفقد الأطفال الذين لم يشعروا يوماً أن لهم أباً يحبهم ويرعاهم ويشاركهم حياتهم في البيت الذي كان يأتي إليه متعباً منهكاً لمجرد أن يملأ معدته بالطعام ويلقي بجسمه ورأسه المتعب فوق الفراش لينام.. نسي أنه أب وزوج،ولم يعد هناك شيء يمكن أن يشغل تفكيره غير عمله وغير المال الذي سيعود عليه من هذا العمل.وتصور أنه يمكن أن يعيش ويمكن أن يستمر في هذه الحياة التي أصبحت فيها بدلة العمل والحديث عن العمل بكل ما يحويه من هزائم وانتصارات هي الشيء الوحيد الذي يلازمه ليل نهار..عندما يصحو من نومه وعندما يذهب إلى فراشه،وحتى لقاءاته الخاصة التي كان يجتمع فيها بالناس... لم يكن يجد حديثا أمتع وألذ من الحديث عن نفسه وعن عمله وإنجازاته.وسرح قليلاً.. ولم يستطع أن يمنع نفسه عن التفكير في المرأة التي أمضت معه أجمل سنين عمرها.“ ألم تكن كل هذا وأكثر من هذا عندما عرفها فتاة صغيرة جميلة وقضى الشهور الطويلة وهو يحاول أن يعبر لها عما يحمله لها قلبه من حب؟ ألم تكن خلال حياتهما معا الزوجة الوفية المخلصة التي كانا يبنيان فيه قصوراً من الأحلام؟ الم تقف بجانبه وتشاركه حلو الحياة ومرها، وهي تشجعه وتدفعه عندما كان تائهاً لا يعرف من أين يبدأ ولا إلى أين يمضي في خطواته المتعثرة! لقد رضيت بالعيش معه في فقره وحرمانه، فلما شبع طغى وبغى وتصور أنه يستطيع أن يدوس على كل شيء بماله وثروته.أليس غريباً أن يتحول قصر أحلامها إلى حطام مهجور بعد أن جاء الأطفال الذين كانا - زوجته وهو - ينتظران وصولهم لكي تكتمل بهم سعادتهما؟وعاد إلى الكتاب بعد وقفة قصيرة مع نفسه.. وكان حتى هذه اللحظة لا يدرك بالضبط ما الذي حدث بينه وبين زوجته .. أين الخطأ ومن المسؤول عنه؟!وعاد إلى الكتاب يقرأ: أما هي .. أما المرأة فهي تتزوج وفي قلبها ورأسها ووجدانها أمل واحد تبحث عنه في الزواج .. أن تجد في الرجل الذي تزوجته أباً وأخاً وأبناً وزوجاً يحبها ويدافع عنها.. رجل مستعد أن يقول للعالم كله إذا جد الجد: “أنا وأسرتي ومن بعدنا الطوفان!” .. رجل يعوضها الحب والحنان اللذين تركتهما وراءها في بيت والديها من أجل تعيش له ومعه!!هل فعل شيئاً من هذا ...؟ هل كان يوماً هذا الزوج والأب؟ ووجد نفسه يهمس لنفسه “هنا كان الخطأ الذي حدث لقد أعماني المال .. وضللت الطريق!”ومن جديد عاد يطوي الكتاب ويلقي به جانباً ويحاول أن ينزع من حياته تلك السنين الطويلة التي عاشها مع زوجته وأم أطفاله!