إعداد / مركز المعلوماتالبروفيسور ياسر سليمان -أستاذ اللغة العربية والدراسات الشرق أوسطية ومدير معهد أدنبره بأسكتلندا للدراسات المتقدمة عن العالم العربي والإسلام- الذي يقدم من خلال هذا الكتاب مساهمة غنية في حقل الدراسات اللغوية واللسانية وأثرها وتأثرها بالمناخ الصراعي والسياسي الذي تشتغل فيه. يتكون الكتاب من 270 صفحة ، وأشرفت على طباعته ونشره دار كامبردج يونيفرستي برس ، وتتلخص الرسالة التي يريد المؤلف إيصالها الى قرائه في يقينه بحقيقة أن اللغة عندما تكون في بيئة غير محايدة وتتناقض مع لغة أخرى تصبح أكثر بكثير من أداة اتصال يومي، وتتحول إلى تعبيرات مركبة لها مدلولات عميقة منعكسة عن قلب الصراع الدائر بين الأطراف المعنية. وفي الشرق الأوسط وخاصة في الحالات الدراسية التي ركز عليها كتاب سليمان -أي في فلسطين وإسرائيل والأردن- مع إطلالات على سوريا ولبنان, تصبح اللغة سلاحاً في الصراع ووعاءً تترسخ فيه الهوية وتدافع عن نفسها, بل تصبح هي ذاتها كلغة عنواناً من عناوين الهوية. كما تصبح فضاءً ثقافياً يفرض تحديدات شبه صارمة بحيث تعمل اللغة على تعريف الفرد لناحية الانتماء الوطني إلى جماعته، خاصة في سياق الصراع مع جماعة أخرى.. ويتناول الكتاب أربعة موضوعات رئيسية يفرد لكل منها فصلاً خاصاً، كما تتداخل التعليقات والتحليلات في الفصول المختلفة وكذا في المقدمة وخاتمة الكتاب لتدعم بعضها بعضاً. الموضوع الأول هو اللغة والقوة والصراع في الشرق الأوسط,، والثاني هو اصطدام اللغات المحلية والدارجة باللغة الفصحى, والثالث هو اصطدام اللهجات العامية ببعضها البعض "حالة الأردن"، والرابع هو اصطدام اللغات ببعضها. اللغة والصراع في فلسطين وإسرائيل في الموضوع الأول الخاص بعلاقة اللغة بالقوة والصراع في الشرق الأوسط, يضع المؤلف القواعد والمناهج الأساسية التي أعتمد عليها في مقاربته لموضوعات الكتاب. وهو يوزعها إلى ثلاثة مسارات: أولها اللغة ولهجاتها المحلية وينعكس ذلك بالتفصيل في الفصل الخاص بالصراع بين اللغة العربية الفصحى واللهجات الدارجة، وثانيها اللهجات المحلية التابعة للعربية الفصحى والمتصارعة في فضاء جغرافي محدد، وثالثها احتكاك أو اصطراع لغتين أو أكثر. ويتناول سليمان العديد من الأمثلة لتوضيح هذه المسارات الثلاثة وتمييزها. ومن الأمثلة والسرديات الممتعة في هذا الفصل التجربة الشخصية للمؤلف عند زيارته موطنه الأصلي فلسطين بعد إقامة طويلة في الغرب، وكيفية استخدامه للغة الإنجليزية هو وعائلته في التخاطب مع الجنود الإسرائيليين على الحواجز الأمنية. فرغم أن أولئك الجنود يتنبؤون بأنه فلسطيني سواء من لون بشرته أو اسمه الواضح في جواز السفر البريطانى، فإنه يصر على أن لا يتحدث معهم إلا بالإنجليزية التي لا يتقنونها. وفي سياق وضع صراعي على مستوى محدود وعبر الإنجليزية فإنه يؤثر في ميزان القوى الصغير بينه كطرف ضعيف وبينهم كطرف قوي, حيث يستخدم مكانة الإنجليزية كلغة عالمية محترمة هو يتقنها بينما هم يتلعثمون فيها.لكن الأهم من ذلك أن اللغة في الوضع الصراعي تستخدم كالحدود: تفصل بين البشر وتحدد معنى الانتماء إلى المجموعات الإثنية والقومية، إذ لا يمكن الاعتراف بانتماء عنصر دخيل إلى الفضاء الإثني أو القومي المحدد من دون اشتراطات هوياتية تدخل اللغة في قلب تكوينها. وإضافة إلى ذلك فإن اللغة هي محل صراع بين القديم والحديث، بين التراث والحداثة، فهي أحد أهم ميادين الصراع إن لم تكن الميدان الأهم، وهو ما تجلى في الثقافة العربية على مدار القرنين الماضيين. فدعاة الحداثة والعلمنة كان من موضوعات التحديث لديهم تحديث وتطوير اللغة، وفي المقابل كان دعاة المحافظة على الأصالة يدافعون عن اللغة كما هي ويرفضون الأفكار الجديدة الداعية إلى تطويرها وتحديثها. وهكذا لا تتجاوز اللغة وظيفة الدور الاتصالي والأداتي فحسب, بل تصبح مشحونة بالرموز والصور ومحملة بالقضايا ومرآة عاكسة للصراعات في المجتمع وحوله..الصراع بين الفصحى والعاميةفي موضوع الصراع بين الفصحى واللهجات العامية يركز سليمان على البعد الاجتماعي للغة التي هي في موضع صراع، ويتعمق في جوانب المعركة الشديدة التي قامت ولا تزال قائمة بين معسكر المطالبين بتحديث اللغة العربية ومعسكر المدافعين عن شكلها التقليدي. وأهمية هذا الصراع كما يشير المؤلف تتجاوز بكثير مسألة تحديث اللغة التي قد تبدو أمراً طبيعياً بل ومطلوباً ويصعب تصور نشوء أي خلاف حاد عليه. فهنا وعندما يتعلق الأمر باللغة العربية الفصحى يصبح أمر المناداة بتحديثها تحدياً مطروحاً يمس قضايا حساسة رآها المعسكر المضاد واقعة في قلب الصراع على الهوية العربية، والدفاع عن الإسلام، بل والدفاع عن الاستقلال الوطني. فقد ارتبطت دعوة تحديث اللغة العربية بالاستعمار، وكانت تجلب معها استدعاءات وظلالا لتجارب شبيهة خاصة التجربة التركية التي لفظت الحرف العربي وتبنت الحرف اللاتيني، لهذا كانت المقاومة لها شديدة. لكن ماذا كانت تتضمن الدعوة إلى تحديث اللغة؟ وماذا أراد التحديثيون؟ يفرق سليمان بين فريقين من التحديثين: الأول راديكالي والآخر معتدل. الراديكاليون طالبوا باعتماد اللهجات المحلية عوضا عن الفصحى, والكتابة بتلك اللهجات واعتمادها كلغات رسمية، والبعض منهم طالب بالتخلي عن الحرف العربي وتبني الحرف اللاتيني باعتبار أن ذلك سيقرب العرب من أوروبا والحضارة الغربية, كما سيسهل من تعلم العربية على غير الناطقين بها، كما طالبوا بتغيير قواعد النحو أو إلغائها نظراً لصعوبتها والإعاقة التي تضعها في وجه تقدم العربية. التحديثيون المعتدلون لم يصلوا إلى تلك المطالبات الراديكالية, وإنما توقفوا عند المطالبة بتعديل قواعد النحو والكتابة،وإدماج اللهجات المحلية في اللغة الفصحى أو الوصول إلى لغة وسيطة بين اللغتين. لكن ما يلفت الانتباه في قراءة سليمان للسجال المحتدم بين دعاة تحديث اللغة والمدافعين عنها كما يصفهم المؤلف هو الإدانة المستبطنة للفريق الثاني بشكل غير مباشر رغم أن المؤلف لا يتخذ موقفاً مؤيدا للفريق الأول، وربما كان ثمة حاجة إلى تضمين فريق ثالث وسطي كان من دعاة التطوير المتدرج للغة لكن بما يحفظ هويتها وما يتناسب مع شخصيتها وعلائقها بالثقافة والتراث والدين وسوى ذلك..صدام اللهجاتفي الموضوع الثالث الذي يفرد له سليمان فصلاً مطولاً، هناك استعراض لحالة اصطراع اللهجات المحلية ضد بعضها البعض وليس ضد اللغة الفصحى. ويأخذ المؤلف حالة الأردن مثالاً مهما حيث يعيش هناك أردنيون من شرق الأردن وأردنيون من أصول فلسطينية. وهنا وعلى خلفية العلاقات السياسية المتوترة التي هيكلت طبيعة العلاقة بين الفئتين خلال العقود القليلة الماضية، فإن اللغة المحلية أصبح لها دور في اللاوعي الجمعي يتناغم مع الموقف والبيئة السياسية العامة.فغالبية الفلسطينيين -خاصة أولئك الذين هم من أصول فلاحية- ينطقون على سبيل المثال حرف القاف مخففاً أي: كاف، في حين ينطقه الشرق أردنيون قافاً متخمة مثل لفظة الجيم المصرية. وقد غدا النطق بهذا الحرف وكأنه مميز للهوية الإثنية والسياسية، فمن ينطقه كافاً فهو أردني من أصل فلسطيني ومن ينطقه قافاً فهو أردني أصيل. ويتعدى الأمر ذلك إلى مسائل أكثر تعقيداً، فكما يلاحظ سليمان هناك تبدل وتغير في اعتماد اللهجة المحلية المعينة يعكس رغبة المتكلم في الانتساب إلى مجموعة معينة أو انتحال صفة هوياتية أخرى. فالأردني من أصل فلسطيني إن أراد تأكيد أردنيته في موقف ما فإنه يتبنى لهجة محلية أردنية، وهو نفسه قد يعود إلى لهجته الفلسطينية في موقف آخر, وهكذا تصبح كل لهجة وكأنها تؤدي وظيفة ظرفية ما ولها تموضع اجتماعي ثقافي سياسي محدد.ومن جانب آخر ينتقد سليمان النموذج التحليلي المشتهر في قراءة اللهجات على أساس جندري "نوع الجنس", أي اختلاف اللهجة تبعاً للذكورة والأنوثة، فمثلاً يُلفظ حرف القاف المذكور أعلاه في المشرق من قبل الإناث بصوت الهمزة مقطوعة أو ممدودة "قمر تُلفظ أمر، وقالب تُلفظ آلب"، وفي بلدان شمال أفريقيا تلفظ الإناث حرف الراء في الفرنسي بصوت الغين - وهو لهجة سكان باريس- بينما يلفظ الذكور نفس الحرف بصوته المعروف، متجنبين الاستخدام الأنثوي له. ويرى أن هذا النموذج محدود في قدرته التفسيرية ولا يقدم تفسيرات شاملة للاستخدامات المتنوعة للهجات المحلية. اللغة في الصراع العربي الإسرائيليفي الموضوع الرابع والأخير يتوسع سليمان في تحليل وضع اللغة العربية في الصراع على فلسطين، وهنا يعود إلى بدايات المشروع الصهيوني واعتماد اللغة العبرية وإقحامها في قلب المعركة ضد اللغة العربية.فبعيد إنشاء الدولة اليهودية عام 1948 كان الاهتمام بالعبرية كلغة رسمية للدولة الوليدة مركزياً باعتبارها إحدى أعمدة الهوية الإسرائيلية المصنعة. وبالتوازي مع تخليق لغة جماعية تتوافق عليها طوائف وجماعات اليهود القادمين من بقاع مختلفة من العالم، كان لا بد من طمس اللغة الأصلية ودحرها وتهميشها إلى أبعد مدى. ويحفل الكتاب بصور تبين كيف كان الوضع المركزي للغة العربية إلى وقت قريب جداً من قيام دولة إسرائيل، أي أثناء الانتداب البريطاني، وكيف كانت علامات ولافتات الطرق والأماكن العامة تُكتب بالإنجليزية أولاً ثم بالعربية وأخيراً بالعبرية. أما بعد قيام إسرائيل فقد أصبحت العبرية هي الأولى تليها الإنجليزية وفي الأخير تأتي العربية.لكن الأهم من ذلك أن مئات القرى العربية تم محو أسمائها العربية وتسميتها بأسماء عبرية عوضا عن ذلك، وبذلك توازى التطهير الديمغرافي الذي قامت به الحركة الصهيونية عن طريق القوة العسكرية مع تطهير لغوي قامت به ماكينة الثقافة واللغة العبرية الدخيلة.وظيفة اللغة لاتتجاوز الدور الاتصالي والأداتي فحسب، بل تصبح مشحونة بالرموز والصور ومحملة بالقضايا ومرآة عاكسة للصراعات في المجتمع وحوله
|
آراء
حــرب الــكـلـمــات
أخبار متعلقة