بعد ان انتصر القضاء المصري لهند الحناوي وطفلة أحمد الفيشاوي
د. احمد الخميسيمنذ أكثر من مائة عام هزت الرأي العام المصري قصة حب الشيخ على يوسف لصفية السادات وزواجه منها في 14 أغسطس عام 1904 بشهود ومأذون ، وبرغبة وأهلية العاشقين .لكن والد صفية الشيخ السادات تقدم في اليوم التالي ببلاغ إلي النيابة العامة يطلب فيه التفريق بين الزوجين، لأن الزواج لم يتم بموافقة ولي أمر الزوجة كما أن الزوج لا يرقى من حيث أصله الاجتماعي إلي مرتبة أهل العروس بالاضافة إلى أنه يمتهن مهنة حقيرة هي الصحافة !!وفي 21 أغسطس حكمت المحكمة بعدم صحة عقد الزواج وبتفريق الزوجين ، واستندت في حكمها على أن أصل الشيخ على يوسف لا يؤهله لمصاهرة بيت الشرفاء ، كما أنه نشأ فقيرا ، والمعلوم أن " عار الفقر لا يزول عنه عرفا " حتى وإن أصبح ثريا فيما بعد وخاضت في القضية كبريات الصحف كالأهرام والمؤيد واللواء ومصباح الشرق والمنار، وطلب الخديوي عباس حلمي ملف القضية لدراسته ، وتدخلت في النزاع لأسباب سياسية معقدة عواصم مثل أنقرة ولندن ، وتابع الرأي العام القضية يوما بيوم .ولم تعد صفية السادات إلي بيت والدها إلا بعد أن تدخل اللورد كرومر شخصيا ! وقد طوى الزمان قصة الحب ، ولم يبق سوى الأثر الاجتماعي والفكري للقضايا التي أثارتها القصة ودفعت بالتطور إلى الأمام . أول تلك القضايا يتعلق بحرية المرأة وسلطة الآباء والأسرة . وثانيا هل يمكن للعلوم والمعارف أن تفتح الباب لأصحابها ليكونوا أكفاء لمصاهرة بيوت الشرفاء ذوى الحسب ؟ هل يمكن معاملة المرأة كسلعة يبيعها والدها لمن يدفع فيها مهرا ضخما ؟ هل يمكن الحكم بعدم صحة عقد زواج صحيح بالكامل جريا وراء تقاليد بالية ؟ . هذه القضايا ذات البعد العام وليس قصة الغرام وحدها هي التي أبقت على حكاية على يوسف وصفية ، كحكاية غيرت من تفكير المجتمع المصري .أمامنا الآن حكاية أخرى معاصرة ، هي حكاية هند الحناوي مع الممثل أحمد الفيشاوي مقدم برنامج المواعظ الدينية " يللا يا شباب.وهي حكاية تختلف قليلا عن حكاية على يوسف ، لأن المرأة هنا في الحكاية العصرية هي التي تطالب بحقها، هذه المرة حقها في إثبات نسب ابنتها إلي والدها أحمد الفيشاوي . والقصة هنا تختلف أيضا لأن والد هند ، الدكتور حمدي الحناوي ليس عقبة ، بل إنه يؤازرها بعقله وقلبه وضميره الشجاع . تزوجت هند من الفيشاوي بعقد عرفي ، وأنجبت منه طفلتها لينا ، لكن الفيشاوي ينكر نسب ابنته .ومع أن الكثيرين من الشيوخ يقرون بشرعية الزواج العرفي ، إلا أن المحكمة الابتدائية أصدرت حكمها الابتدائي - قبل ان تستانفه هند الحناوي - برفض دعوى إثبات نسب الطفلة " لينا " ل " أحمد الفيشاوى " بذريعة أنه لم يثبت لها صحة الزواج ، رغم اعتراف الفيشاوي على مرأى ومسمع من الجميع في برنامج تلفزيوني بوجود العلاقة مع هند .منذ مئة عام وأكثر حكمت إحدى المحاكم المصرية ببطلان عقد زواج تم على يد مأذون وبشهود ، لمجرد أن الأعراف السائدة كانت تقتضي رضا والد العروس .وقبل بضعة شهور اصدرت محكمة ابتدائية مصرية أخرى حكماً برفض طلب هند الحناوي نسب ابنتها لينا إلى ابيها أحمد الفيشاوي بحجة ان زواجهما العرفي فاسد بحسب منطوق الحكم الابتدائي الذي استند الى أن الأعراف السائدة لا تحبذ الزواج العرفي . وفي الحالتين هناك تجاهل للمنطق والواقع الحي . فقصة الزواج العرفي ليست قصة هند الحناوي وحدها ، فهناك نحو ثلاثة ملايين حالة زواج مماثلة ، وهناك 12 ألف دعوى لإثبات النسب تنظرها المحاكم المصرية ، ومئات الآلاف من الأطفال الذين تكتظ بهم الملاجئ في مختلف البلدان العربية بعد أن تخلت عنهم أمهاتهم خوفا، هذا غير مئات الأجنة التي تجهض يوميا في السر والعلن . والمسئول الأول عن ظاهرة الزواج العرفي بين الشباب هو البطالة وضيق ذات اليد والأمل الضائع في توفير سكن أو عمل مما أدى إلى وجود 13 مليون شاب وفتاة في سن الزواج لا يجدون حلا لأزمتهم ، منهم 9 ملايين تجاوزوا سن الخامسة والثلاثين دون اقتران .وقاد ذلك إلي ظهور أشكال أخرى للزواج مثل " زواج المسيار وزواج ( فريند ) وارتفاع نسبته بين طلبة وطالبات المدارس الثانوية والجامعات العربية ، وهناك أشكال أخرى لحل الأزمة كزواج الأشرطة الكاسيت، والدق بالوشم ، والطوابع ، وكلها سبل لتخطي السدود والاستمرار بالحياة . والحكم الذي صدر عن المحكمة الأبتدائية قبل أن تستانفه هند ، كان بمثابة لطمة على وجه الحقيقة الماثلة أمام الجميع ، وبه أعلن الذين صفقوا صراحة لذلك الحكم أنهم يفضلون زواج المتعة ، والزنا ، والإجهاض ، عن الزواج العرفي المعترف به . وعلى هند الحناوي أن تفكر الآن بعد ان خاضت وانتصرت في إحدى معارك المرأة المصرية ، ليس في مصير طفلتها الصغيرة وحدها ، بل مصير أكثر من طفلة ، وعليها - وقد فتحت الباب على مصراعيه - أن تواصل السير لتدافع عن حق كل الأطفال في إثبات نسبهم لآبائهم ، وأن تفسح ضميرها لكل الطفولة . وهو ما قالته هند بعد صدور حكم محكمة الإستئناف قبل يومين في صالحها عندما اعلنت عزمها على تشكيل منظمة غير حكومية تدافع عن الاطفال الذين تخلى عنهم اباؤهم ومجتمعهم .قد يشير الزمن بعد صدور حكم المحكمة الاستئنافية يوم الاربعاء الماضي بنسب الطفلة لينا إلى ابيها أحمد الفيشاوي ، إلى انتصار قضية هند العادلة ، وإلى المثل النبيل الذي ضربه والدها البروفيسور الجامعي د . حمدي الحناوي في الأبوة ، لكن الزمن سيتوقف طويلا عند المغزى العام لتلك الحكاية الجديدة، وأثرها في التفكير الاجتماعي ودفعها للتطور ، باعتبارها قصة فتاة شجاعة قررت أن تدافع عن الحقيقة الى النهاية.