محمد زكريا سبحان الله الذي كتب على نفسه البقاء وعلى عباده الفناء . في اليوم القريب ودعنا علم من أعلام صحيفة " 14 أكتوبر أنه الصحفي الكبير الراحل شكيب عوض ـ رحمه الله ـ الذي كان ركنا من أركان الصحيفة . ولقد دخلها من بابها إلى محرابها بعد مشوار طويل مليء بالجهد والمثابرة والصبر والعمل الدؤوب . [c1]مايسترو[/c]عشق صحيفته التي كانت بالنسبة له بيته ودنياه . تبوأ قسم الثقافة بعد مدة قصيرة من التحاقه بالصحيفة حيث أظهر مقدرة رائعة في ميدان الكتابة الثقافية, واستطاع أن يجعل الصفحة الثقافية في " 14 أكتوبر" تموج بشتى الكتابات الفكرية جمعت بين أطياف المواضيع الثقافية والإبداعية التي تناسب مختلف فئات القراء الاجتماعية أو بعبارة أخرى تلائم حظوظهم الثقافية المتنوعة . كان أشبه ما يكون بما يسترو يقود فرقة كبيرة تتباين فيها آلات الموسيقى ولكن تنساب منها أنغام متناسقة عذبة . [c1]القلم اللاذع[/c]كان صحفيا موهوبا من الطراز الأول . كان قلمه قلما ناقدا يدخل إلى صلب الموضوع مباشرة . وكان من الصحفيين الذين يمقتون اللف والدوران في الكتابة . ولقد سطر الكثير من الكتابات القصيرة اللاذعة سواء على صفحات الصحيفة أو في صفحته الثقافية وكانت تحدث صدى بين القراء .[c1] جذوة متقدة[/c]كان القسم الثقافي الذي كان يرأسه جذوة متقدة ضم كبار الصحفيين المخضرمين الذين كان لهم سهم وافر في الثقافة أو قل إن شئت كانوا شعلة من النشاط الإبداعي على سبيل المثال الشاعر والصحفي الكبير الراحل عبد الله الدويلة ، والكاتب الكبير صاحب النزعة الفلسفية الراحل عوض باحكيم وغيرهما كثير . ولقد أفرد الأستاذ شكيب عوض مساحة واسعة للعدد من المبدعين المختصين سواء في المسرح ، أو النقد الأدبي . وكان دائما حريصا على متابعة آخر الأعمال السينمائية التي لمعت على صفحات الشاشة الكبيرة , وفي كثير من الأحيان يعطيها مساحات عريضة , ويقوم بتقويمها , ونقدها نقدا غاية في الروعة . وكان للأستاذ شكيب عوض من مدة ليست بقصيرة في التليفزيون برنامج شد المشاهدين وهو »الشاشة الكبيرة« . وكانت له مساهمات كبيرة في الإذاعة حيث قدم العديد من البرامج الفنية . والحق يقال كان الأستاذ شكيب عوض كان طاقة فنية تتسم بالحيوية , والحركة ، وقبل ذلك قدرته في عرض تلك الأعمال الفنية بصورة قيمة و شيقة في آن واحد .[c1]أحلى الذكريات[/c]ومن الطريف أن غرفة قسم الثقافة والتي كانت شبه مستطيلة وكان عرضها ضيق ضمت القسم الرياضي الذي كان يرأسه الراحل شيخ الصحفيين الرياضيين محمد عبد الله فارع , وكان ـ أيضا ـ يوجد الراحل طه حيدر , والزميل العزيز ناصر عبد الله ـ حفظه الله ـ , والشيء المثير أن بعض الصحفيين في القسم الثقافي على سبيل المثال عوض باحكيم كان يخوض صراعا كرويا مع صحفيي قسم الرياضة وخصوصا حول المنتخب الألماني الذي كان يعجبه طريقة لعبه وكان بعض الزملاء من الصحفيين من الأقسام الأخرى يأتوا ليدلوا بدلوهم في كرة القدم . وكنت أتأمل الأستاذ شكيب عوض وعلى وجهه ابتسامة خفيفة وهو يراقب ذلك الجدل الرياضي بين عوض باحكيم وبعض صحفيي قسم الرياضة والذي كان يشجع المنتخب البرازيلي, وعندما يشتعل الجدل الكروي إلى حد ينبغي وقفه ، فسرعان ما يتدخل الأستاذ شكيب , أو بمعنى عندما يريد أن يجذب عوض باحكيم من دائرة الإثارة والفوران الكروي إلى مربع الهدوء والثقافة ، فيحدثه عن بعض المواضيع الثقافية التي من المقرر أن يكتبها أو أجراء حديث صحفي مع شخصية ( ما ) ، فإنه سرعان ما ينسي الأستاذ باحكيم الكرة وأحوالها وأهوالها. والحق يقال كان هناك مناخا دافئا ، ومودة , ومحبة عميقة تسود القسم الثقافي والقسم الرياضي. كانت أياما رائعة . فرحيل الأستاذ شكيب عوض أخذ معه, أحلى الذكريات والذي كان هو بطل أحداثها بلا منازع. .[c1]مثال في الإنضباط[/c]والحقيقة أن معرفتي بالأستاذ شكيب عوض عن كثب أو قل تعاملي أو احتكاكي معه بصورة مباشرة ويومية أتاح لي فرصة التعرف على أسلوبه في العمل الصحفي والذي استفدت منه استفادة كبيرة . وكان الأستاذ شكيب رحمه الله دمه خفيف حتى وهو في عز الشغل ليبدد سحب التوتر الذي كان يصيب الكثير من الصحفيين . كانت الابتسامة الرقيقة لا تغادر وجهه الطيب . وكانت النكتة حاضرة عنده. كان قلبه يحمل كل الخير للناس . يبتعد عن المشاحنات ، كانت حياته اليومية في الصحيفة مثل عقارب الساعة في الانضباط لم يتخلف عن عمله إلا في حالات وظروف قهرية . كان يحضر في الصباح الباكر ، ويعد الصفحة القادمة لليوم الثاني بهدوء ودون ضوضاء . وعندما كان ينتهي من أعداد الصفحة لليوم التالي ـ كما قلنا ـ كان يعطي لنا بعض التكاليف الصحفية , وبعض الملاحظات على مواضيعنا . وبعد ذلك ندردش في مختلف المواضيع ثقافية ، فنية ، اجتماعية وغيرها . وكان يشاركنا ـ أيضا ـ في الحديث أو الدردشة الأستاذ محمد عبد الله فارع , وطه حيدر رحمهما الله .[c1]الصحفي الحقيقي[/c]والحقيقة أن الأستاذ شكيب عوض ـ رحمه الله ـ إلى جانب أنه كان صحفيا من الطراز الأول كان إنسان بكل معنى لهذه الكلمة ، كان يختزن في ثنايا قلبه الحب للجميع ، كان من النوع الذي يكظم غيظه , ويعفو عن من أساء له . فكانت له عبارة يقول فيها بما معناه " الصحفي الحقيقي هو الذي يهتم فقط بمهنته ويحاول قدر استطاعته وإمكانياته أن يحسنها ويطورها بصورة مستمرة أو بعبارة أخرى أن الصحفي الذي يحترم صاحبة الجلالة أي الصحافة هو الذي ينكب على العمل الصحفي فقط وأن يكون صادقا مع نفسه والقراء .[c1]مدرسة صحفية[/c]والحقيقة أن الأستاذ شكيب عوض كان نبراسا باهرا ومدرسة صحفية قيمة من الطراز الأول وسيظل لكثير من الصحفيين المبتدئين أو الذين كانوا يطرقون أبواب صاحبة الجلالة الصحافة ويقفون على أعتابها وعلى وجه التحديد في الصفحة الثقافية الذي كان رئيسها ـ وقتئذ ـ, ولقد تعلمت على يديه الكثير من مسائل الصحافة ففتحت لي أبواب واسعة كانت بالنسبة لي مجهولة على سبيل المثال التغطية الصحفية ، الأحاديث الصحفية , صياغة الخبر وغيرها كثير وكيفية الصياغة الصحفية وكيفية وضع العناوين المثيرة التي تلفت نظر القراء . ففي قضايا التراث والتاريخ على سبيل المثال . وكان دائما يقول لي هناك فرق بين أن تكتب في مسائل التراث والتاريخ في كتاب , وأن تكتبها في الصحيفة . في الصحيفة أمامك قراء تختلف حظوظهم الثقافية بخلاف الكتاب الذي له رواده المختصين به , فحاول ـ والكلام مازال للأستاذ شكيب عوض ـ قدر جهدك أن تكتب التراث والتاريخ بأسلوب سلس , وسهل خال من التعقيد , وحاول ـ كذلك ـ تجسد الأحداث التاريخية تجسيدا حيا مع الاحتفاظ بجوهر الموضوع التراثي ، والتاريخي . والحق يقال حاولت أن أتمسك بأهداب نصائحه الصحفية الثمينة تارة أنجح ، وعشرة المرات أفشل فيها . [c1]عاشق مدينة كريتر[/c]ولقد كان الأستاذ شكيب عوض يعشق مدينة عدن القديمة والمشهورة باسم (( كريتر )) أو قل إن شئت غارقا حتى أذنيه في حبها الكبير . وعلى الرغم أنه كان يعيش في المعلا . كان يذهب إلى عدن ( كريتر ) يوميا في الصباح أو المساء ليشعر بالدفء في أحضان أحيائها القديمة, وأسواقها العتيقة . ولذلك لا نستغرب قبل وفاته بأيام معدودة أن أوصى بأن يدفن في ثرى عدن القديمة في مقبرة القطيع والتي تعد أقدم الأماكن فيها . [c1]صاحب القلب الكبير[/c]إن الحديث عن الراحل شكيب عوض حديث ذو شجون , كان كتيبة صحفية أحب الصحافة فأحبته ، ففتحت له كنوز أسرارها ليغرف منها ما يشاء . كان شكيب عوض أولا وقبل كل شيء صاحب القلب الأبيض الكبير . ، كان صورته دائما وأبدا لدى زملاءه الصحفيين أنيقا , رقيقا في كلامه وجه بشوش . مثلما كان عاشقا لمدينة عدن ( كريتر ) كان عاشقا لمصر، عاشق لنيلها الخالد ، وأهلها الطيبين . رحم الله أستاذنا الكبير شكيب عوض . أن العين تدمع ، والقلب ينفطر من الحزن والأسى الكبيرين , ولا نقول إلا ما يرضى الله سبحانه وتعالى الذي كتب على نفسه البقاء وعلى عباده الفناء ... إن لله وإن إليه راجعون . وأن يتغمده برحمته ، ويلهمنا ويلهم أهله الصبر والسلوان , ولا حول ولا قوة إلا بالله .
|
ثقافة
شكيب عوض الذي عرفته
أخبار متعلقة