إذا كان تاريخ لقاء الإسلام مع الآخر الغربي، يبدأ من زمن الرسالة المحمدية، أو على نحو أدق، من السنوات الثلاث الأخيرة منها، فإن هذا اللقاء، ومنذ ذلك التاريخ، انطبع بطابع العسكرة، أو اللقاء غير السلمي. ظروف كثيرة، وسياقات ملزمة، جعلت من السلاح أداة اللقاء الأولى، ومن ثم جعلته تاريخ علاقة دائمة، لم يستطع أي من طرفيها تعديل قوانين هذا الجوار الدائم، وكأن الحرب كانت لازمة من لوازم هذا الجوار الأبدي. قد لا يوافق كثير من دارسي الحالة الراهنة للقائنا بالغرب أن نمتد بهذا الغربي إلى الزمن الرومي الأول. هناك من يرى الفصل التام بين حقب التاريخ الغربي، ولا يرى اليونانية ولا الرومانية، إلا كحقب مقطوعة الصلة بالتاريخ الغربي الراهن؛ لأنه يتصور أن القرون الوسطى كانت كفيلة بتحقيق هذا الانقطاع، وأن الانبعاث الغربي في القرون الخمسة أو الستة الأخيرة، كان انفصالا عن تاريخ، بأوسع ماتعنيه كلمة : تاريخ.لهذا الرأي الذي يقول بالانقطاع نسبيته من الحقيقة، ولكنه لا يستطيع تصويرها كما هي؛ من كل زواياها. النهضة الأوروبية قطعت مع قرونها الوسطى إلى حد كبير، ولكنها بقدرما قطعت؛ وصلت مع تاريخها في عمقه اليوناني والروماني. بل إن المسيحية التي لم تعتمدها كأساس نهضوي، واصطدمت بها لاهوتا وكهنوتا؛ لم تكن خارج الوعي؛ كجزء من مفردات الصراع القومي، أو الذي أراد النهضويون أن يجعلوها قوميا، متجاوزا للديني.تم عزل المسيحية كلاهوت وكهنوت عن التاريخ. وأصبح وجودها في الصراع وجود مفعول به، وليس وجودا فاعلا. أي أن الصراع الغربي في زمن النهضة وما بعدها لم يكن دينيا، حتى وإن حضرت مفردات الديني في سياق الصراع، فهي إذ تحضر؛ تحضر كمفردة قابلة للتوظيف في الصراع، وليست كمنشئة للصراع، أو متحكمة في آلياته أو مصائره.هذا يعني أن الحروب الصليبية التي شغلت العالمين : الإسلامي والمسيحي، لمدة ثلاثة قرون، لا تحضر - الآن - في الوعي الغربي بوصفها حروبا عقائدية - حتى وإن كانت في زمنها كذلك - وإنما كحروب قومية، بين الأهل والآخر. هذا في الجانب الغربي. أما في العالم الإسلامي، فهي لا تزال حروبا صليبية عقائدية، هاجم فيها المسيحيون المسلمين؛ لمجرد أنهم مسلمون، وأولئك مسيحيون.من هنا، ندرك أن وعي الغربي بأن التاريخ الروماني هو تاريخه، وأن الكنيسة الشرقية، كما الغربية، جزء من تاريخه، لا يعني أنه يعي وجوده الراهن بوصفه وجودا مسيحيا. فالبعد العقائدي يكاد يكون معدوما - إن لم يكن معلوما تماما في بعض السياقات - حتى وإن حضر كتاريخ غابر يشار إليه. هو امتداد قومي، وليس دينيا، بعد أن تعلم الغرب تعلمنا شموليا، ولم تعد العقيدة حاضرة في وعيه السياسي أو العسكري.إذن، فعندما نؤكد على أن تاريخ علاقتنا بالغرب بدأ بمعركة مؤتة، لا يعني تديين الصراع، ولا أن الغربي هو امتداد عقائدي للمسيحي الروماني. بل هو إشارة إلى عالمين متمايزين، التقيا على امتداد أربعة عشر قرنا؛ بصرف النظر عن ديانة كل منهما. صحيح أن العقيدة كانت - في فترات تاريخية - هي الإطار الذي يحدد معالم كل منهما. لكن، كان النفوذ السياسي هو الذي يحدد هذه المعالم على نحو أدق، وكان الصراع تديره قوانين القوة، وطبيعة الإمبراطوريات الجامحة، أكثر مما يديره المتعصب الديني.هذا التاريخ الذي حكم لقاءنا بالغرب، هو الذي يحكم رؤيتنا الآن، بل ويحكم الرؤية من جانبنا أكثر مما يحكمها من جانب الإنسان الغربي. على امتداد القرون الأربعة عشر الماضية، لم يكن هناك مجال واسع للقاء ثقافي مسالم، بل كانت المعركة اللاهوتية تضطرم بجانب المعركة المسلحة. وحتى التجارة كانت استثناء في التاريخ؛ عندما كان اللقاء العسكري هو القاعدة. وعندما حضر الغربي قبل قرنين، حضر كغاز، وكفاتح، وكمحتل، ولم يحضر بوصفه صاحب حضارة، ورسول قيم. بل كانت الفتوحات العلمية التي تحققت على يديه، هي سبيله لتحقيق الفتوحات العسكرية التي وضعت الفتوحات الأولى في سياق السالب.الغربي أتى - بعلومه وجيوشه - مستعمرا. وهذا يعني أنه عزز المنطق التاريخي الذي حكم العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب. لهذا، كان طبيعيا أن يعمد العالم الإسلامي إلى المواجهة العسكرية، ليس لأنها مواجهة فرضت عليه على هذا النحو، وإنما لأن التاريخ يقول له بأن العلاقة مع الغربي هكذا تكون. كانت المبادرة بيد الغربي؛ ليجعل اللقاء حضاريا، ولكنه لم يكن مستعدا لذلك؛ لأكثر من سبب، وإن كان سياق الثورة الصناعية، مغريات القوة، هما أشد ما حكم توجهات الغربي آنذاك.العالم الإسلامي من جهته، لم يستوعب موازين القوى الجديدة، ولا موقعه من التاريخ؛ بعد أن أصبح التاريخ تاريخا غربيا بجدارة. لم يع أن راهنه ومستقبله محكومان بطبيعة علاقته مع هذا الآخر الغربي، ولم يع أن المواجهة المسلحة محكومة بالهزيمة قبل بدايتها. الجهل بالذات وبالآخر من قبل العالم الإسلامي، هو ما جعل المقاومة مجرد رحلة انتحار، وليس غير الانتحار.هذا الانتحار لم يكن مقصورا على ضحايا الحروب الخاسرة، فيما عرف بحروب الاستقلال، تلك الحروب التي نقلت شعوبها من الاستعمار إلى أن تكون رهن الاعتقال، وإنما كان الجانب الأشد إيلاما هو الانعزال الحضاري الذي منع الأنا من مقاربة الآخر، على نحو يضمن الانخراط في سياق الحضارة الكونية التي لم تعد خيارا، بقدر ما أصبحت قدرا؛ لا مفر منه إلا إلى الانسحاق التام.جزء من انعدام الرؤية، وجزء من طبيعة قتالية، هما من لوازم الشخصية العربية، هما ما أعطى الفرصة للحذاء العسكري، كي يحكم باسم الاستقلال. عسكرة اللقاء بيننا وبين الغرب، مكن للذي لا يمتلك غير حذائه وخوذته، أن يقود أمة، ويحدد معالم ثقافة، ويطرح مشروع حضارة، بينما هو لا يمتلك غير تلك الحنجرة العاوية بعبارات الاستقلال. فكان استقلالا، ولكنه الاعتقال، وبنيت على إثر ذلك حضارة المعتقلات الجهنمية على يد الزعيم الملهم المظفر، المُفدى بالأرواح والدماء، وبكت ملايين العيون التي منحها الاستقلال حياة الذل والعار، على زمن الاستعمار، ولكن بعد فوات الأوان.كان بإمكان العروبية القعساء، والإسلامية السمحاء، أن يتفاعلا مع الحضور الغربي بشيء من العقلانية السياسية، وأن تكون المقاومة مقاومة سياسية، وليست عسكرية، تكون نتائجها - كحالة طبيعية - في صالح العسكرة. لكن، قصور الوعي الديني الذي استخدم كإحدى آليات الاستقطاب الجماهيري، وتراجع الثقافة المدنية؛ بسبب الانكفاء على الذات إبان الاستعمار، أديا إلى ركوب موجة المقاومة الرعناء، وإسقاط الخيار السياسي من الحساب.اليوم، معظم البلاد العربية والإسلامية، تتحكم فيها ثقافة الاستقلال العسكري، أي أنها كيانات قامت على مزاعم البطولات الوهمية التي توهمت أنها حررتها من الاستعمار. وهي اليوم تحكم بشرعية ذلك التحرير المزعوم؛ عندما كانت تلهب بألسنتها آذانهم، وألهبت - من بعد - بالسياط ظهورهم. التحرير المزعوم، ولأنه كان معسكرا، فقد تم تحقيقه على مستوى الوجود العسكري المباشر، ولكن، لم تتحرر السياسة؛ لأنه لم يكن تحريرا سياسيا، ولا يمكن أن يكون.للأسف، فبعد كل هذه الرحلة الطويلة من الإخفاق في العلاقة مع الآخر الغربي من قبلنا، لا نزال أسرى المقاومة العسكرية ودعاويها التي يجأر بها، من لا يملك سوى البندقية التي لا يحسن استخدامها. اللقاء على مستويات السياسة، ومنها الثقافي والاقتصادي، لا يزال المتعسكرون، يرونه هامشا في سياق الصراع، بل ربما صنفوه في خانة الخيانة القومية أو الردة الدينية. وهذا طبيعي من أذرع مسلحة، أصبحت هي كل شيء، هي القوة وهي العقل، هي الخيار الآني، وهي إستراتيجية المستقبل، مستقبل الأبناء والأحفاد. أي أن المستقبل مستقبل الحروب، مستقبل القتل والإبادة، لا مستقبل الحياة والنماء.علاقتنا الراهنة بالغرب هي علاقة سلمية، مع استثناءات قليلة، لا تكاد تذكر في حجم مساحة اللقاء السلمي. لكن، هناك من يريد أن يجعل من بؤرتين أو ثلاث، للصراع الذي ليس شرطا أن يعد صراعا بين الغرب والعالم الإسلامي، صراعا عاما بيننا وبين الغرب. اختصار كل أنواع العلاقات القائمة، والتي يمكن أن تقوم إلى هذا المشهد أو ذاك، هو جزء من أزمة العقل العربي الذي تتحكم في صيغته الأصوات العالية، تلك الأصوات القادرة على تجاوز الكل لحساب الجزء؛ ما دام هذا الجزء يلهب مشاعرها الطفولية، وتصوراتها البدائية التي لم تتجاوزها بعد. لا يمكن أن تكون قضية أو قضيتان، هما ما يحكم علاقتنا مع الغرب اليوم. كما أنه ليس شرطا أن ننجر إلى محاولات عسكرة هذه القضايا، وإدماجنا في هذه العسكرة التي تقطع الطريق على تواصلنا الحضاري. إبقاء الصراع في حدوده، محاولة نقله من صراع معسكر إلى صراع مسيس، هو مهمة الثقافي (بأوسع معاني الثقافة) في الوقت الراهن. أما الأصوات التي تدعي الثقافة، بينما هي معسكرة، فهي أصوات وظيفتها أن تقوم بمهمة الطبول الشرفية في الاحتفالات العسكرية. هذا على افتراض أنها تحسن هذا الدور الشرفي !.نقلا عن جريدة “الرياض” السعودية
المقاومة بين السلاح والسياسة
أخبار متعلقة