عبدالله الدحملي كثيرون هم عمالقة الشعر العربي, وهم موزعون على خارطة الوطن العربي الكبير الممتد من الماء إلى الماء, منهم كذلك الشاعر والمبدع اليمني الكبير, الأستاذ إبراهيم الحضراني, الذي يعد “ دنيا قائمة بذاتها قاراتها الظروف والحب والجمال “ (1) امتلك القضية فصار يعبر عنها بصدق وشفافية مطلقة, فغنى للوطن والإنسان, وتغنى بالحرية والانطلاق والطفولة.. حتى المرأة لم يكن الحضراني – رغم انشغاله بقضية الوطن والإنسان اليمني – لم يكن ببعيد عنها, فقد وظفها في شعره, وظفها – وهو الغالب- كحبيبة, امرأة قائمة بذاتها تدرك بالمحسوسات, وتغزل بها, ألبسها ثوب المعنوي للتعبير عما يختلج في كيانه, وما يعج في أصداء نفسه..إننا نلمس في شعر الحضراني الغزلي، تنازع نفسياً، فهو الشاعر المتيم، والمحب، والمغامر، يحتمل أن يلقى في دروبه الخير أو الشر ولا وسط بينهما ، ثم هو الشاعر القنوط المفتقر إلى حرية الانطلاق والطيران في دنيا الحب، فهو يعايش الحزن ويعاني الألم ويكابد مرارة الزمن القاسي ، ثم هو من يحاول ان يتلمس لحظة الحب الجميلة ، وربما هذا ما نجده في نصه الآتي الذي يعمد فيه الشاعر إلى الإفصاح عن حبه وبوحه المسترسل إزاء صورة الحب “البحر” الذي يسبح فيه الشاعر بفيض من المغامرة . يقول في قصيدة “هل من حيلة” وهي من شعر الصبا والشباب.[c1]أعيش في بحر من الحب لا***ينفك ذا مد وذا جزرمازلت في أمواجه عائماً***مستسلماً للخير والشرارى بأني لو تعديته***لعشت في بؤس وفي ضر “11”[/c]هكذا بدى الحب في صبا وشباب الشاعر الحضراني، ضرباً من المغامرة كأنه يخوض البحر، وبما ن طبع هذه المرحلة “الشباب” يرتبط بحب الخوض في عالم المجهول فلابد، إذن، من الاستسلام لما هو آت وبخاصة لدى العاشق الذي يرى ان البؤس لو قفل راجعاً ، لارتد عن خوض عالم المجهول ..إذن عالم الشاعر الارضي الذي يعيشه مليء بصور التوتر والضياع والاسئلة المعلقة في معلاق الانتظار المجهول إنه عالم منكفئ في دائرة سوداوية قوامها الدرامية النابعة من التشبع الحضاري الذي أفقد بحركته غير المنتظمة بعده الإنساني ساقطاً في بؤرة منغلقة تتفتت داخلها كل الأحلام النورانية، وبالكاد ينكشف فيها صوت المستقبل، ليبقى الانهيار هو الحدث الغالب عليه. ونتيجة لذلك رأى الشاعر المعاصر في الرحلة وسيلة للتخلص من كل الاحباطات والتأزمات النفسية وحالة السأم التي صارت ترهق روحه وتسد بوادر الحلم فيها ..””12”لكن الرحلة لاتكون عنواناً للانتصار الدائم بل قد تغد وعنواناً للانهزام والانسحاب من حلبة المواجهة “ الحب ، المرأة” وبعد ما أصبحت من الصعوبات بمكان تحمل عبء الفجائع والاحباطات التي يمارسها الواقع بكل تمظهراته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية ، هذا الانسحاب يمثل بحد ذاته مأزق التشابك التداخلي في قضية الشاعر المحب الذي بدأ مغامراً ثم قفل بعزوفه عن ذلك كما صرح بهذا قائلاً:[c1]هل من حيلة تخرجني مثلما***يستخرج الحوت تخرجني مثلما***من البحر "12"[/c]من خلال هذا يتبين لنا مدى التنازع النفسي الداخلي الذي اجتاح هذا الشاعر، وكذا ندرك تماماً أنه لم يتمكن بعد من امتطاء ناصية الشعر ـ والقصيدة الغزلية خصوصاً ـ وثم تجربة الحب في دنيا المرأة، ومع الحشد الدلائلي الهائل “بجر ، مد ، جزر، شر، حيلة ..” الذي لمسناه في القصيدة إلا أنها تمثل الهبوط في المستوى الايصالي الإقناعي للقارئ، ذلك لحدة تشابك العوامل مجتمعة في القصيدة ، قضية الشاعر المحب وعوامله النفسية التي جعلته متردداً في ما بدأه وعزم عليه .. إذ في الاخير نجد الشاعر يفضل الانسحاب من “ القضية، الموقف ، حلبة المواجهة” وهو بين الشاعر ونفسه يتساءل “هل من حيلة تخرجني؟”لكن خوض الشاعر اليافع لتجربة الحب لاشك أنها قد ولدت شاعريته، وصقلت قريحته والهمته نظم القصيدة لغزلية التي استقام أمرها، وقوي عودها في ما بعد ـ كما سيتبين لنا ـ حيث استمد منها قوة المخيلة الحضرانية التي اتسعت آفاقها مع تقادم الايام ونضوج التجربة الشعرية .. فلما ازداد شوق الشاعر، وصار مولعاً بالحب، وصار ينادي طير الأراك، وفي إطار من التشخيص الاستعاري “ياطير” باثاً شكواه وحسرته ومسقطاً إياهما على هذا الطائر ليشاركه الحزن ويقاسمه الآلم ويشاطره اللوعة والتشرد والأزمة ـ وفي إطار من التساؤلات يقول:[c1]ياطير هل بك لوعة***مثلي وهل تحيا مشرد؟وتبيت ياطير الأراك***كما ابيت أنا مسهدلوكنت مثلي لم يكن***لي في الدجى أسف يرددولطرت أني شئت إذا***كل الفضا سنن معبد “14”[/c]شكلت كل من الافعال “ابيت ، تبيت ، تحيا، يردد، طرت” وسؤال الشاعر “هل بك ..؟” وحضور الرمز “مشرد، مسهد ..” كلها شكلت لنا صورة رمزية رائعة لها دلالتها الايجابية، فيما قدم لنا النص في مجمله صورة متكاملة عن هذا الطائر الذي لبس عباءة الإنسان ورأى الشاعر من خلاله كل معاني الحرية والانطلاق، لذا صار الشاعر يحسد هذا الطائر على حريته وبعده عن سلبيات وعاديات الزمن، وهذه الصورة إنما تكشف عن الصراع الإنساني الدائم من اجل التغلب على حدبة الزمن الذي يمثل جبروته ووحشيته أكبر قاهر للإنسان ولكأن الشاعر وجد في “آلام الحب مرتعاً شعرياً خصباً ملأ به فراغاً نفسياً وعاطفياً ووجد فيه سلوى ومهرباً من واقعه الأليم .. وكلما زادت واستمرت هذه المتاعب زاد غزله حرارة وغزارة” “15”وظل قلب الشاعر ينبض بالحب، ويعشق الحسن والجمال بجنون المحب الذي لايعرف قيوداً ولا قانوناً:[c1]إن الذي كون في أضلعي***قلباً بحب الحسن مجنونا “16”[/c]مضى الحضراني على هكذا منوال وعلى هذه الشاكلة، يتغنى بحسن الحبيبة ، ويغني لجمالها في إطار التذلل لاجل استعطافها، واستدرار عطفها ظاهرة شائعة في الغزل العربي ، وقد يصل بهم هذا الاستعطاف الذي يعد من أبرز سمات الغزل العربي، إلى أن يضع الشاعر للمحب صورة إنسان ذليل، ولاينكر، إزاء هذا، اثر الحب في إذلال المحب، وهذا يكون مقبولاً لاستمالة الحبيبة ، وتقرباً منها حتى تقع في شرك الحب” “17” من قصيدة “ليت” نقطف قول الشاعر:[c1]ليت لما رأيت حسنك أطبقت***عليه الجفون كيلأ يزولاليت لما التمت ثغرك داوي***في ضلوعي جوى، وروى غليلاأنما ظمان يا مليحه ظمان***ول أنني شربت النيلا!ما شفائي وصل مداه قليل***وبراني بعد يدوم طويلاًلحظات اللقاء ياليتها دامت***وكانت لها حياتي بديلاليتني قد حملت في ضلوعي***نفحات وفي فمي سلسبيلا[/c]لقد لعبت اداة التمني “ليت” المتكررة في القصيدة دوراً مهماً في إبراز دلالات السعادة لدى الشاعر المحب استمرت هذه السعادة لتصل إلى حد “الظمأ” التي تكررت في القصيدة ايضاً، وهي إيذاناً بالاصرار على دوام اللقاء بين كلا المحبين “ الشاعر ومحبوبته” لا الوصل المؤقت وهي ـ أي ظمان ـ تعبر عن شدة عطش الشاعر للقاء محبوبته “مليحة” التي تعلق بها، الانثى الرامزة في القصيدة لامرأة بعينها لم يحبذ الشاعر الافصاح عن اسمها كونه ينتمي إلى مجتمع شرقي متحفظ، فاكتفى باسم “مليحة” باعتباره اسماً مستعاراً لايمس الاعراف والتقاليد ، لكن الشاعر لانراه متحفظاً عندما تلوح المرأة وهي بلا حجاب “خمار” وهذا ما نجد اثناء سفر الشاعر إلى الجزائر على متن طائرة فما يلبث حتى نراه يتغزل بها قائلاً:[c1]غادة قربت الحلوى لنا***غفر الله لها ما ضرهافهو يختال على معصمها***لو سقتنا الحلو من مبسمها[/c]إن محبوبة الشاعر غادة “النادلة” التي رافقت الشاعر ذات يوم على متن طائرة والتي قربت له الحلوى قد وقعت في قلب الشاعر عندما رأى حسنها ودلالها وجمال جسدها الانثوي الذي يتبين من خلال “ معصمها” الذي ينبئ عن جوهر الجمال الانثوي ، لذلك حينما راها لم يتمالك نفسه حتى افصح عن مدى شوقه وتوقه لتقبيلها “ومعانقتها “ لو سقتنا الحلو من مبسمها” ما يعني ان تلك المحبوبة “ غادة” تتمتع بجمال انثوي جذاب لم يلحظه الشاعر من قبل في امرأة مجتمعه المتحفظ الذي يسوده الحجاب والذي بدوره وقف حاجزاً امام المتغزل بملامح الحبيبة الجزئية، وربما كانت شبه غائبة عن الشعراء الغزليين في اليمن كالخدين والشفتين والنهدين والخصر .. الخ واكتفى الشاعر الغزلي في وصفه لذلك بالتقريب .. “وربما ساعدت القراء وحدة البيت على ان يستقل البيت عادة بوصف جزء وجزءين من جسدها ويعتمد وصفهم هذه الأجزاء على التصوير البياني المستمد تشبيهاته واستعاراته من الصور التراثية”.”20”ان المرأة بوصفها علامة سيمولوجية، فضاء مزدوج “للحياة والموت، للفرح والشؤوم فهي كما تشير إلى صورة الجمال ورقة المشاعر ، وترتبط بالجوهر الإنساني وتحقيق الديمومة والتواصل للنسل البشري، تشير أيضاً إلى الخبث والدهاء والشر والكيد وإلى كثير من الدلالات السلبية التي ترتبط، بصورة خاصة، بجانبها الشخصي. فالمرأة قد تتحول من مخلوق جميل جذاب رقيق المشاعر، يستهوي نفس الرجل ويغريها إلى مخلوق شرير يخفي الكثير من الدلالات المشؤومة والمأساوية” “21” فهي محترفة تتلاعب بمشاعر الرجل وتدعي إخلاصها للحب، كاهنة .. هذا ما يشير إليه النص التالي:[c1]لم أدر لما اتصلت ما اسمها***أهند؟ أم أمية؟ أم آمنة؟قالت وقد أخلصت جبي لها***وأخلصت لي حبها الفاتنة:عرفتني؟ قلت لها: إنني***عرفت فيك الفكرة الكامنةعرفت افكارك وقادة***عرفت حتى نفسك الحازنةقالت: تكهن من أنا؟ قلت: لا***ماذا يفيد اسمك يا كاهنة؟ “22”[/c]ان الحوار في النص الشعري في مجمله يشير إلى تلك العلاقة القائمة بين الشاعر وبعض النساء الترفات اللاتي كي يقمن معه علاقة غرامية وهمية، وخاصة عبر الهاتف ، في الأوقات المتأخرة من الليل، كون هذا الوقت هو الأنسب لإقامة هكذا علاقة، وهو طبع جرى عليه الكثير من الشعراء الغزليين، في عصرنا الحديث، فالشاعر يتلقى اتصالاً هاتفياً من أحدى النساء المحترفات، تعاكسه، فيأخذهما الحديث المذيل بالاسئلة، من قبل الطرفين، إلى ان تفضح طبيعة تلك العلاقة، ويتبين للشاعر المحب أن محبوبته كاهنة، محترفة .. ويبدو ان الشاعر من خلال تساؤلاته “أهند؟ أم ميه، أم آمنة؟” أنه كان على علاقة غرامية مع عدد من النساء المحترفات اللاتي صرح الشاعر ببعض اسمائهن وكن الأكثر حضوراً في مراودته “معاكسته”، ويدهشنا الشاعر بقوة حدسه ببصيرته الثاقبة عندما حدد تلك الفتاة المحترفة من بين تلك الثلاث “عرفت فيك الفكرة، افكارك .. نفسك الحازنة”، ولكون الشاعر كان يعاني جوع الغرام وظمأ الحب والتعلق بالمرأة المحبوبة فقد كان مخلصاً في حبه ايما إخلاص ألم نر كيف يستسلم للمرأة من أول مرة “أخلصت حبي لها” هذا هو جوهر الشاعر، الصدق، الذي كان خلاصة روحه المعذبة في دنيا المحبوبة، بل وعصارة تجربته التي لم تغيرها الأزمان والأمكنة على اختلافها وتعاقبها، ولما يجد خلاف ذلك وتفقد تجربة الحب لديه جوهر الصدق ونواة الحقيقة، في لحظات فلما تستمر سعادتها نجده يعرف عن المرأة في تلك اللحظات قائلاً في أسلوب استفهامي “ماذا يفيد اسمك يا كاهنة” اذ به يرجع إلى محطته الاولى يبحث عن الغرام الحقيقي مرة أخرى.[c1]هوامش “2 ـ 2” [/c]11” القطوف الدواني في شعر إبراهيم الحضراني ص 6212” دلالات الاشياء .. مرجع سبق ذكره ص 13213” القطوف الدواني .. مرجع سبق ذكره ص 6314” نفسه ص 7615” شعر الغزل التقليدي .. مرجع سبق ذكره ص 8116” القطوف الدواني مرجع سبق ذكره ص8017” شعر الغزل التقليدي مرجع سبق ذكره ص7218” القطوف الدواني مرجع سبق ذكره ص 8119” نفس ص 7920” شعر الغزل التقليدي .. مرجع سبق ذكره ص 7721” دلالات الأشياء مرجع سبق ذكره ص6222” القطوف الدواني المرجع السابق ص121
|
ثقافة
الغزل في شعر إبراهيم الحضراني (2 ـ 3)
أخبار متعلقة