الوحدة اليمنية في وثائق الجبهة القومية وحكومة الاستقلال
د . علوي عبدالله طاهرفي 19 أغسطس 1963، عقد في مدينة صنعاء اجتماع حضره عدد من قيادات حركة القوميين العرب في اليمن، وفي هذا الاجتماع تم إعلان تأسيس (الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل) وإلغاء التسمية القديمة للجبهة (جبهة تحرير جنوب اليمن) وهي التسمية التي كانت قد أعلنتها الجبهة في بيانها التأسيسي الصادر في 24 فبراير 1963م.وكانت (الجبهة القومية) قد دعت منذ بداية تشكيلها إلى الأخذ بمبدأ الكفاح المسلح كأسلوب وحيد لتحرير الجنوب اليمني المحتل، وكانت الانطلاقة الأولى للكفاح المسلح في 14 أكتوبر 1963، من جبال ردفان، وسرعان ما انتشر لهيب الثورة ليعم مناطق الجنوب المختلفة، حتى وصل لهيبها إلى مقر القاعدة البريطانية في (مستعمرة عدن).وفي الفترة من (22 - 25 يونيو 1965م) عقدت الجبهة القومية مؤتمرها الأول، وفيه أقرت برنامجها السياسي، المتمثل في (الميثاق الوطني لجبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل)، وهو انعكاس لبرنامج (حركة القوميين العرب).وفي 13 يناير 1966م أقدمت عناصر من قيادات الجبهة على التوقيع لدمج الجبهة القومية مع بعض التنظيمات الأخرى، و إثره تم الإعلان عن تأسيس (منظمة تحرير الجنوب اليمني المحتل)، التي ضمت في عضويتها إلى جانب العناصر المنشقة من الجبهة القومية عناصر أخرى من تنظيمات سياسية أخرى، وبعضاً من حكام الإمارات والسلطنات الذين انشقوا عن زملائهم ورفضوا التعاطي مع المشاريع التي اقترحتها سلطات الإدارة البريطانية في عدن، غير أن قواعد الجبهة القومية رفضت هذا الدمج، واعتبرته بمنزلة ردة إلى الوراء في اتجاه الأخذ بالحلول السياسية، التي تجاوزتها الأحداث، وقد نجم عن عملية الدمج هذه قيام (جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل).وفي المؤتمر الذي انعقد في (خمر) في نوفمبر 1966م تقرر انسحاب (الجبهة القومية) عن (جبهة التحرير) وعادت (الجبهة القومية) لتعمل من جديد بصورة مستقلة، غير أن هذا الانسحاب قد تسبب في إيقاف الدعم المالي والعسكري عنها من قبل أجهزة الاستخبارات المصرية العاملة في اليمن، التي كانت تقدمها لها قبل ذلك.وتحول هذا الدعم إلى (جبهة التحرير)، ثم إلى (التنظيم الشعبي الثوري للقوى الثورية)، المنبثق عن (جبهة التحرير) الذي كان قد تأسس في أكتوبر 1966 كرد فعل لانسحاب الجبهة القومية عن (جبهة التحرير) معلنا التزامه بالكفاح المسلح. وكانت قيادات (جبهة التحرير) تعنى بالشأن السياسي، في حين تركت الكفاح المسلح (للتنظيم الشعبي للقوى الثورية) الذي كان ينافس (الجبهة القومية) في العمل العسكري، وكان كل منهما ينسب لنفسه أية عملية فدائية يتم الإعلان عنها، ما أدى في الأخير إلى الاقتتال بينهما، وانتصار (الجبهة القومية) واندحار (جبهة التحرير وتنظيمها العسكري) وكانت قد حصلت الأولى على اعتراف سلطات الاحتلال وانحياز كبار ضباط الجيش والأمن معها، في حين تم ملاحقة الأخرى وحظر نشاطها السياسي ومفاوضة الجبهة القومية للتوقيع على وثيقة الاستقلال التي تم إعلانها في الثلاثين من نوفمبر 1967م، وقيام (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية).ولما كانت (الجبهة القومية) منفردة قد تسلَّمت زمام السلطة في الدولة الجديدة، في وقت كان النضال فيه من أجل الوحدة اليمنية في جنوب الوطن في أشد عنفوانه ما كان يستوجب اندماج الشطرين وعقب جلاء قوات الاحتلال مباشرة، خصوصاً أن (الجبهة القومية) كانت في طليعة التنظيمات السياسية في جنوب الوطن الداعية إلى وحدة الشطرين في كيان سياسي واحد، غير أن ذلك لم يتم في حينه؛ لأن الظروف لم تكن مهيأة في الشطرين - بحسب زعم القيادات السياسية حينها - أو بالأصح لم تكن الإرادة السياسية جادة لتحقيق هذا الهدف السامي، ما جعل مسيرة الوحدة تتأخر لما يزيد على ربع قرن من الزمان.والعجيب أن وثائق (الجبهة القومية) جميعها تؤكد قضية الوحدة اليمنية باعتبارها مسألة إستراتيجية، وهذا ما سنحاول إيضاحه في هذه المقالة المتواضعة.لقد نص الميثاق الوطني للجبهة القومية في (ص 7) على ما يلي :«إن المنطقة - اليمن شمالا وجنوبـا - ظلت وحدة طبيعية متكاملة تجمع شعبها روابط وعوامل كثيرة، منها وحدة الأرض، ووحدة المعاناة اليومية للحياة ووحدة المصلحة والمصير، وقد تجسدت هذه الوحدة على مستواها السياسي في عصر الإسلام في دول متعددة تعاقبت على المنطقة كدولة الزياديين والباطنيين والزيديين، والأيوبيين والصليحيين تضم شملها، وتعبر عن وحدتها.ولظروف تاريخية واجتماعية معينة تهاوت هذه الدول وحطم بعضها بعضا، وبدأ قادة الجيوش والولاة في مناطق الجنوب يشرفون على إدارتها والاستقرار فيها، ثم أخذوا يقتطعون الأرض لملكيتهم الخاصة ويعلنون عن انفصالهم التدريجي عن الحكومة المركزية في صنعاء أو تعز أو زبيد أو عدن» (المنطقة حتى عام 1839، فقرة 3).ونستدل من ذلك على أن الجبهة القومية أقرت في ميثاقها أن اليمن شمالا وجنوبا كيان واحد عبر التاريخ، غير أن ظروفا اجتماعية وتاريخية معينة أدت إلى تهاوي ذلك الكيان وقيام دويلات هزيلة في الأجزاء التي اقتطعت من الكيان الواحد.وفي البيان السياسي الصادر عن القيادة العامة المنبثقة عن المؤتمر الرابع للجبهة القومية المنعقد في مدينة زنجبار في الفترة (2 - 8 مارس 1968) جاء ما يلي : (ص 9)«على المستوى المحلي لابد أن نسجل الملاحظات التالية :أولا : بالرغم من أننا حققنا طرد المستعمر والقضاء على النظام السلاطيني شبه الإقطاعي في جمهوريتنا؛ إلا أنه يجب ألا يغرب عن بالنا أن تحررنا الوطني لن يتحقق بشكله السليم؛ إلا بانتصار ثورتنا في الشمال وتحقيق وحدة الإقليم اليمني».وهذا يدل على أن وحدة الإقليم اليمني كانت غاية سامية تسعى الجبهة القومية لتحقيقها؛ إلا أن الأخطار التي تعرضت لها الثورة في الشمال، ربما كانت واحدة من أسباب تأجيل إعلان الوحدة.وجاء في البيان الوزاري الذي أعلنته حكومة الاستقلال ما يلي : (ص 43) :«انطلاقا من الإيمان بحتمية تحقيق الوحدة اليمنية؛ فإن توثيق العلاقات وتطويرها على أسس علمية بين شمال اليمن وجنوبه من خلال التفاعل والالتحام بين مختلف المستويات الرسمية والشعبية لتجسيد المصلحة المشتركة لشعبنا، تحتم بالضرورة دراسة القضايا المشتركة والاتفاق حولها، وتوحيد وجهات النظر فيها وتطبيقها بين حكومتي الجنوب والشمال بما يتفق والمصلحة العامة للشعب، لهذا لابد من إنشاء مكاتب تنسيق تحقق هذه الغاية»، (الفقرة (1) في السياسة الخارجية).ويفهم من ذلك أن الجبهة تؤكد حتمية الوحدة اليمنية، ووجوب تحقيقها على أسس علمية، وربما كانت هناك جهود جادة لتحقيق هذه الغاية من خلال العمل على توثيق العلاقات بين الشطرين وتطويرها، ومن خلال التفاعل والالتحام بين مختلف المستويات الرسمية والشعبية، لولا حصول بعض المتغيرات المتسارعة في الساحة اليمنية. وهذا ما يؤكده برنامج استكمال مرحلة التحرر الوطني الذي أقرته القيادة العامة للجبهة القومية في دورتها العادية المنعقدة في الفترة (7 - 11 أكتوبر 1968م) بقوله : (انظر الفقرة المتعلقة بالدائرة اليمنية):«لولا الظروف الموضوعية السائدة في الشمال والجنوب عند استقلال الجنوب، تلك الظروف التي شكلت عوائق آنية لكان من الضروري قيام الكيان اليمني بتحقيق الوحدة اليمنية التي ظلت وما زالت أمل الشعب اليمني في الشمال والجنوب» أ . هـ .وكانت الجبهة القومية تطمح إلى تغيير الأوضاع في شمال الوطن؛ لأنها لم تكن على وئام تام مع النظام القائم في صنعاء المنبثق عن انقلاب 5 نوفمبر 1967م الذي تحالف مع خصومها من البعثيين واستوعب النازحين من عناصر جبهة التحرير والتنظيم الشعبي، وهي لذلك كانت ترى أن ذلك يشكل عائقا آنيا لتحقيق الوحدة اليمنية، وتتمنى زوال ذلك العائق، لذلك بذلت ما في وسعها للتآمر على نظام صنعاء بهدف إسقاطه لتمكين أنصارها من القوميين في شمال الوطن للوصول إلى الحكم، وعملت على دعمهم لتشكيل تنظيم سياسي موال لها، على أمل أن يكون ذلك التنظيم هو الذي سيخلق التجانس المنشود بين حكومتي الشطرين، وفي حالة حصول ذلك فإن معوقات الوحدة ستزول من وجهة نظرها.وانطلاقا من هذا النهج الخاطئ لخلق الظروف الموضوعية لتحقيق الوحدة بدأت اليمن تدخل في دوامة من الصراع الأيديولوجي والعقائدي والحروب الأهلية، أدت إلى إزهاق المئات بل الآلاف من الأرواح البريئة، بسبب أن الجبهة القومية كتنظيم شعبي جماهيري - كما وصفت نفسها - كانت قد قررت في برنامج استكمال مرحلة التحرر الوطني أنها «ستعمل على توفير الظروف الملائمة لتحقيق الوحدة اليمنية»، وهي ترى «أن الوحدة اليمنية تتطلب توافر الأوضاع السياسية والاجتماعية الملائمة كما تتطلب وحدة الإرادة الثورية في الشمال والجنوب التي ستحقق وتحافظ على وحدة اليمن».وبناءً على ما سبق يمكننا القول إن الجبهة القومية قد وقعت في خطأ إستراتيجي، حين ربطت قضية تحقيق الوحدة اليمنية بقضية أخرى هي خلق وحدة الأداة الثورية في الشمال والجنوب، فهي بدلاً من العمل على تذليل المعوقات التي تحول دون تحقيق الوحدة اليمنية، اتجهت اتجاها مغايرا، فركزت كل اهتمامها لخلق (وحدة الأداة الثورية) واعتبرت ذلك قضية مهمة بالنسبة لها، فاقت المساعي لتحقيق الوحدة اليمنية.وربما كانت الجبهة القومية تتصور - وهو تصور خاطئ من وجهة نظرنا - أن «وحدة الأداة الثورية في الشمال والجنوب هي التي ستحقق وتحافظ على وحدة اليمن وعلى المكاسب الثورية التي حققها وسيحققها الشعب اليمني في نضاله لبناء المجتمع اليمني التقدمي».(انظر برنامج استكمال التحرر الوطني).وانطلاقا من هذا التصور الخاطئ قدم فخامة الرئيس قحطان محمد الشعبي رئيس الجمهورية برنامجا مكونا من (عشر نقاط) حدد فيها الخطوط الرئيسة التي تقوم عليها ومن أجلها الوحدة اليمنية، وأعلنها في خطابه الذي ألقاه بمناسبة الاحتفال بيوم الشهداء في الحادي عشر من فبراير 1969، وهي أقرب ما تكون إلى النقاط التعجيزية منها إلى النقاط الموضوعية، لما تشتمل عليه من مطالب غير منطقية من شأنها أن تعمق الفرقة ولا تلم الشمل، وليس ذلك فحسب بل ستدخل اليمن في دوامة لا تنتهي من الصراعات الإقليمية.ولما كانت هذه النقاط قد تجاوزتها الأحداث، وصارت من التاريخ، فلا أرى مانعا من عرضها هنا على اعتبار أنها وثيقة من وثائق حكومة الاستقلال وهي الآن لا تقدم ولا تؤخر، لكنها مع ذلك تعتبر وثيقة مهمة؛ لأنها ترينا جانبا من جوانب تفكير قادتنا في مرحلة تاريخية معينة.تقول الوثيقة (انظر نصها في مجلة (المجلة) عدد (5) (ص 87) الصادرة في عدن، عن وزارة الثقافة والإرشاد، أبريل 1969) :«إذا كان أشقاؤنا في الشمال فعلا متطلعين إلى إيجاد حل وإلى تحقيق الوحدة العربية اليمنية سيرا نحو تحقيق وحدة عربية اشتراكية؛ فإن النقاط الآتية هي الأساس :أولا : لابد أن نقر أن الوحدة بين الجنوب والشمال لابد أن تكون ذات مضمون اجتماعي تقدمي اشتراكي.ثانيا : لابد أن تجتمع كلمتنا على تصفية الاحتلال الأجنبي من أراضينا هنا في إقليم اليمن كجيزان ونجران وجزر كوريا موريا. (هكذا في النص).ثالثا : العمل على المساهمة لتصفية الاستعمار أينما كان وفي حدود إمكانياتنا.رابعا : محاربة الإمبريالية في الوطن العربي والجزيرة العربية والمساهمة في ضربها عالميا.خامسا : تصفية الإقطاع في الجنوب والشمال، وتحقيق المجتمع الاشتراكي ومجتمع الكفاية والعدل، ولهذا فإن قانون الإصلاح الزراعي الذي بدأ في الجنوب لابد أن يشمل الشمال أيضا لنقضي على الإقطاع هناك. (هكذا).سادسا : إيجاد اقتصاد وطني متحرر في الشمال والجنوب وهذا مبدأ من مبادئ ثورة 14 أكتوبر نص عليه الميثاق. (هكذا).سابعا : محاكمة كل مجاميع الثورة المضادة لثورتي الشمال والجنوب 14 أكتوبر و26 سبتمبر.ثامنـا : وضع حد نهائي لقواعد الثورة المضادة الموجودة على حدودنا في الشمال في مكيراس وتعز وجيزان وماوية والمفاليس وفي باب المندب.تاسعا : إقرار برنامج استكمال مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي الذي أنزلته أداة الثورة الجبهة القومية للشمال والجنوب.عاشرا : الميثاق الوطني لابد أن يكون الدليل النظري لأداة الثورة في الشمال والجنوب؛ لأنه يحتوي على تحقيق أهداف الشعب في الشمال والجنوب.على هذه الأسس نحن على استعداد للسير مع حكام صنعاء لتحقيق الوحدة» أ . هـ.وبعد عرضنا لهذه الوثائق أستطيع القول إن الوحدة اليمنية كانت غاية وهدفا ساميا في النضال من أجل التحرير، لكن الساسة ضلوا الطريق في الوصول إليها؛ إلا أن مشيئة الله أرادت أن يحظى بشرف تحقيقها فخامة الرئيس القائد علي عبدالله صالح ورفاقه في الثاني والعشرين من مايو 1990م.