نجمي عبد المجيداحتلت القصة القصيرة في أدب غسان كنفاني مكانة مهمة تجاوزت مساحة إسهاماته في حقل الرواية العربية الحديثة.وفي هذا الجانب يعد دوره إضافة أدبية نقلت الأسلوب القصصي إلى مرحلة جديدة في كتابة هذا النص من حيث الأسلوب والمضمون. ومن نقاد الأدب من يضع اسمه في مستوى الريادة التي أوجدتها قصصه إلى جانب أسماء في الأدب العربي مثل زكريا تامر، ويوسف إدريس وحيدر حيدر وغيرهم من الكتاب الذين جعلوا من أدب القصة القصيرة ريادة إبداعية وصلت إلى مستوى العالمية من خلال التعبير عن لحظات أو مواقف من حياة الإنسان العربي.في كل المجالات الأدبية التي أسهم فيها غسان كنفاني، وحضوره المتميز عبر الكلمة الإبداعية، سعى الى تحرير النص الأدبي من الخطاب السياسي، وقدم القصة الفلسطينية من خلال الرؤية الكونية لهم الإنسان.قدم غسان عدة مجموعات قصصية وهي (موت سرير رقم 12) عام 1961م (أرض البرتقال الحزين) عام 1962م (عالم ليس لنا) عام 1965م (عن الرجال والبنادق) عام 1968م وقصص أخرى، وكل هذه الأعمال نشرت بعد استشهاده عام 1971م في بيروت مع الأعمال الكاملة في المجلد الثاني الطبعة الأولى في يونيو عام 1973م والطبعة الثانية عام 1980م والتي أشرفت عليها لجنة تخليد غسان، مؤسسة غسان كنفاني الثقافية، دار الطليعة للطباعة والنشر ـ بيروت.يشكل الحدث في القصة القصيرة عند غسان كنفاني لحظة متصلة مع مجريات الحياة، بل هو حالة تواصل مع الأقدار التي تصنع مصير الإنسان. ولكنه في سرديات النص تتكون خصائصه التي تجعل منه صورة إنسانية ترتقي إلى مستويات إبداعية عالية من حيث توظيف الكلمة وتحديد المعاني.فالوطن في هذا النص يمتد على مسافات من الرحيل والاغتراب، الخروج والبحث عن البديل ومحاولة الانتماء للمكان المغاير، غير أن هذا الحلم يسقط في مأزق الفاجعة، فلا يجد الفرد في الهروب غير المذلة والخوف وفقدان معاني الإنسانية، فالمدن مهما امتدت شوارعها وطالت مساحاتها تتحول إلى حالات حصار أمام هذا القادم الغريب المنبوذ الذي يحلم بمساحة صغيرة على الرصيف كي يعمل وينام عليها، ولكن حتى هذا الجزء من زمن الاغتراب يصبح حالة حصار وكيان يطارده ويطرده من كل الاتجاهات، فلا بديل عن فلسطين مهما كانت حالة التوجع فيها.في مجموعة (أرض البرتقال الحزين) يصور لنا صلة الإنسان الفلسطيني بهذه الأرض، غير إنه إبداعياً لا يقع في إطار الذاتية التي قد تفرضها فكرة العمل الأدبي المنطلق من معاناة شعبه، بل هو يخرج النص الى مسافات أبعد من العمل الأدبي، فالمستوى الذي يمر به الفرد الفلسطيني من الأحداث يصبح عند التوازن من حيث المصير، عند الشعوب التي فقدت أوطانها ودخلت مصائرها في دائرة لعبة الأمم.فهذه الأرض حيث الشجرة التي تطاولت قامتها وفروعها مع عمر الإنسان ومسيرة كيانه على هذه الأرض، كيف تسقط أوراقها حزناً وهي ترى راعيها يقطع من هذه الأرض، وهنا يصبح البرتقال أكبر من صورة لحاجة مادية، أنه جزء من هذا المكان بل هو روح ظلت تراعي الهوية وتحفظ الانتماء وفي هذه الأسلوبية الإبداعية الرائعة يجمع غسان كنفاني بين الأرض الثابتة الباقية حيث هي رغم محاولة العدو الصهيوني إعادة رسم جغرافيتها ومحو أصالتها العربية، وبين إنسانها الذي يدمر منزله ويشرد ويقتل وتساقط قطرات دمه على أديمها، أنه الموت ولكنه موت يعلن عن ميلاد آخر لكيان من وجدوا على هذه الأرض فالأرض الحزينة لا تنجب الانكسار بل تصنع الغضب والحقد والرغبة في الانتقام، وهذا ما يرغب العدو الصهيوني الذي يسعى لقطع كل شجرة وعرق وصلة مع هذه الأرض، إنها معادلة التحدي والمقاومة، والإصرار على العودة من أبعد المسافات إلى هذا المكان.تحمل قصص غسان كنفاني عدة صور للحياة والإنسان الفلسطيني في الداخل وخارج الوطن.يقول الأديب الدكتور يوسف إدريس عن مكانة غسان كنفاني في الإبداع القصصي: (إن قيمة الكاتب الفنية ايضاً تستمد كمها وكيفها من القضية، بمقدار صدقه تكون قيمته، بمقدار دابة الملح على الصدق وسبر أغوار الحقائق للوصول إلى حقيقة الحقائق، بمقدار الإيمان يكون عمق الموهبة. الأصالة هي من أصالة قضيتك والعبقرية هي أن تصل بإيمانك وبتعبيرك عن هذا الإيمان حداً لا يصله غيرك، لن تجد عبقرياً واحداً الا وهو مؤمن ومهووس بقضية إلى حد يعجز.أحسست لأول مرة في حياتي بفخر إني كاتب من كتاب القصة العربية القصيرة حين أستشهد غسان كنفاني فبحياته حين انتهت هكذا، انتقل من حيث الكتاب إلى حيث الأبطال وكان أول كاتب قصة يفعل هذا بل بالأدق أول كاتب في كل تاريخ أدبنا العربي يعيش قضيته إلى حد الشهادة. أحسست بفخر أني انتمي لغسان وأنه من نفس جيلي وأن تاريخ الكتابة العربية، الكتابة وليس صنعة الكتابة، سيبدأ هنا صفحة جديدة تنهي تاريخاً طويلاً من العيش ذلاً.تكمن القيمة الإبداعية والفنية لأعمال الرائد غسان كنفاني في كتابه القصة القصيرة في تحرير الأسلوب الأدبي من الصناعة والتكرار، والاعتماد على البلاغة التي تفتقد للقضية، بعيداً عن الحشو في المفردات والجمل الزائدة في داخل النص، يضع غسان قضية شعبه في جوهر الهم الإنساني ومن هنا لا تصبح اللغة مفردات لمعاني الكلمات، بل هي الروح المحركة لتلك المشاعر والأحداث حتى تصل إلى مستوى كيان الإنسانية، وتتدرج اللغة من موضع الكتابة إلى حالة الالتحام الكامل مع وجع المعاناة، وتلك مقدرة إبداعية تصعد بموهبة الكاتب إلى منزلة كبرى في درجات الخلود الأدبي عالم من اللغة يمتلك كياناً ووجوداً في مواجهة القدر وتحدي المصير حيث تسقط كل محاولات الإلغاء والقهر من قبل المعتدي أمام قوة المعاني والإرادة أما الموت ـ الاستشهاد ـ من أجل القضية فإعادة تكوين لما حاول العدو إحراقه وتحويله إلى رماد، حيث تتصارع قوة القهر وإرادة الحياة إلى حد مرعب من الصدام، إنها حلقات تقرير المصير التي لا تقف عند حدود من حرب الاستنزاف.منذ عام استشهاد غسان كنفاني 1971م ظلت أعماله الأدبية من المراجع التي تحدد مسار تطور الأدب الفلسطيني منذ تاريخ النكبة عام 1948م مروراً بنكسة 1967م مابين الخروج ومسارات البحث عن طريق للعودة وعجز القيادات عن الوصول بقضية الشعب والوطن إلى مستوى المسؤولية ورفض كل مشاريع التراجع والاستسلام واعتبار فلسطين هي الوطن والمصير الذي لا بديل عنه، هذا الإرث الذي تركه لنا غسان سوف يظل من معالم الأدب العربي الحديث، وفي عالم القصة القصيرة تعد أعماله إضافة جديدة ونقلة نوعية في أسلوب الكتابة المتطور مع روح العصر وما تفرزه المراحل من أشكال جديدة في الإبداع الإنساني الذي يتجاوز حدود المحلية إلى رحاب العالمية، حيث تتجاور المعاني ومشاعر وأحلام الشعوب، وهي ترحل مع إشراقه كل يوم في سفر التحدي ومن هنا تصبح للكتابة مكانة وإرادة في حياة الكاتب، ورسالة حضارية ترحل من لغة إلى لغة ومن جيل إلى جيل ومن حضارة إلى حضارة، فلا غرابة أن نجد أعمال غسان كنفاني قد ترجمت إلى أكثر من 30 لغة وقدمت عنها العديد من الدراسات والبحوث في مختلف جامعات العالم، وأصبح اسمه يقف مع كتاب في قائمة الإبداع العالمي الذين حملوا قضايا شعوبهم، وتحدوا كل محاولات الإسقاط والتهميش وجعل الهم والوجع الفلسطيني جزءاً من معاناة الشعوب وفي ذلك عالمية الأدب الخالد الذي يرافق قدر الإنسان في كل الأزمنة عندما تشتد المواجهة بين القهر والحياة، وقيمة الأدب الحقيقية في جعل الإبداع جزءاً من سلاح المقاومة.
أخبار متعلقة