يحلق عالياً في حلم أنثوي مجنح
كتب/ محسن الذهبي سأل أحدهم بوذا قائلاً “علمني النحت يا بوذا” فرد عليه “أذهب وتعلم الرسم والرقص والفلسفة والموسيقى ثم أطلب مني أن أعلمك النحت”تذكرت هذه الحكاية، وأنا أتأمل منحوتات الفنان العراقي المغترب في ليون بفرنسا “حيدر وادي” والمولود ببغداد 1976 وهي تسعى إلى الخروج من الكامن الجامد إلى المعبر المفتوح الأفق أو من الواقع إلى المتخيل برشاقتها وبخطوطها التكوينية اللينة وحجومها الإيقاعية الراقصة.ففي الوقت الذي أزداد فيه اهتمام النحاتين بالتجريد، حتى أصبح اهتمامهم منصباُ على مشكلات التكوين وأهملوا المحتوى أو الرسالة في العمل النحتي ولم يعد اهتمامهم مركزاً على ثيمة الإنسان للتعبير عما يحيط به، نجد أن أعمال الفنان حيدر وادي تعاكس تلك الموجة، فيعود في منحوتاته للإشغال على الدلالات التعبيرية مستفيداً من مخزون الفنون الشرقية وتأثيراتها فهنا يمكن أن نؤشر بوضوح مرجعيات من موروث حضاري، يخص بلاد ما بين النهرين في فن النحت وتأثيرات الفنون الأخرى عموماً، وبهذا تكمن مصداقية الفنان في التأثير من الأصول والتجديد وتأصل ما يجدد دون أن يفقد هويته وتفرده الأسلوبي.فهو يمزج بين التشخيصي والتجريدي مبتعداً عن البنائي - السكوني الجامد متخذاً من المرأة وطموحها في الانطلاق موضوعاً لأغلب أعماله في هذا الأسلوب، عاكساً فكرة حكائية قديمة من الموروث الشرقي في طموح الرجل في التحليق والطيران - كمحاولة عباس بن فرناس وآخرين - مستبدلاً ذلك بأشكال أنثوية في تحقيق حلم التحليق عالياً في الأعالي كي يعبر عن قدرة - الفرد - المرأة على الانفلات من كل الأطواق المحيطة بها، مستعيرة أجنحة لتحقيق الحلم.إن أعمال حيدر وادي تجمع بين البناء الشكلي التجسيمي الأنثوي والبحث عن الحرية كمترادف لإبراز قدرته النحتية فهو لا يختزل الشكل بل يعتمد وبإصرار على إبرازه على أكمل وجوهه، نحتاً مجسماً قائماً في الفراغ.فالمعالجة النحتية عنده قائمة على حركة الكتلة المتوازنة حجماً وفراغاً معاً، آخذاً بعين الاعتبار بساطة السطوح ومرونتها وقوة ارتباط الكتل المشكلة للمنحوتات في بناء الحضور المعبر والجميل لكتلة المنحوتة ككل في الحيز الفراغي وبتوازن تكاملي وكأنه يحاول دمج الفراغ بالزمن ليعطيه بعداً مضافاً.بالإضافة إلى أن التناسب الموزون بين الكتلة كمساحة وهيكلية الفراغ، والتي تعكس قدرة النحات العالية والمتمكنة في الوقت نفسه رغم أنه لم يختر أحجاماً كبيرة لمنحوتاته.ويتضافر ذلك مع الكثير من الدقة والصدق في التعبير ما يجعل العمل الفني يتقدم رؤية متخيلة لدى المتلقي تثير فيه كوامن حلم ما بالانطلاق.إن عملية الخلق عند الفنان وكما يعبر بول فاليري إنما غايتها هي إثارة عملية خلق أخرى لدى المتذوق.فأعمال النحات حيدر وادي فضاء مفتوح على الأحلام اللامتناهية فهي تستشف الواقع بأبعاد ودلالات سيمولوجية متنوعة.وهذه الأفكار تتألف بعلاقتها بالمنظور العام وتندمج معه، وأهم شيء فيها هو أن المتلقي لهذا العمل يحاول أن يتخيل هذه المنحوتات البرونزية رغم ثقلها لديها القدرة على الطيران والتحليق في الفضاء الواسع.فعند رؤيتها من بعض الزوايا، وخصوصاً من الجوانب وكأنها تطير وتنطلق محلقة بعيداً حتى لو في حلم.أن الفنان يحاول جاهداً إقامة حوار جمالي مفتوح بين عمله والمتلقي عبر الهيئة والملمس والتكوين، وهو الحوار الذي نتعرف من خلاله أيضاً، على مدخلات النظام البصري الذي يتشكل معه نسيج العلاقة بين مبدأ التكوين وجوهر التعبير.وهذا التصور لأسطورية العمل، لا يعني أن أعماله بعيدة عن الواقع أو غير حقيقية، بل إن الهدف الأساسي هو التعبير عن الإنسان العبقري المنطلق، بشكل نساء مجنحات، كي يرسخ فكرة غير جديدة بالمطلق بالنسبة لفن النحت، فهو يعبر عن مجاز ليحطم به سلبية الواقع والركون إلى الأشياء.إن حيدر وادي عبر أعماله البرونزية هذه يريد أن ينقلها إلى عوالم حلمية، عن الأشكال المألوفة في النحت، وفي الفن عموماً، فهو يقدم رسالة مشاركة منه للآخرين هدفها أن تجمع كل البشر في إحساس واحد.وحلمه أن يتواصل الناس من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في تغير الواقع المأساوي المستلب لحرية المرأة وليس تجميل الأشياء فحسب، فهو يجتهد في البحث عن أنسب الأشكال المعبرة من أجل إبراز الحقيقة خلف أقنعة الواقع، والتي لا نراها في فن النحت التقليدي بل نراها في الحقيقة الإنسانية، والتي نكتشفها في الأشكال الحركية والصيغ المبتكرة التي تبحث عن الهوية المستقلة، والتي تحمل فلسفة مقبولة عبر لغة تحاكي الثقافات العريقة من خلال تمازج العناصر العضوية والثقافية في أعمال تعكس عمق الفكر الإنساني والمخيلة الروحية الخصبة والأمر هنا يتطلب وضوحاً خاصاً في الفكرة والشكل وتهديم التصور السائد حول النصب التذكاري والأعمال النحتية، كشيء راسخ جامد بدون حركة.فانسيابية الحركة وتعبيرية الكتلة والفراغ اللذان تتميز بهما أعمال الفنان قد كسرتا هذه التصورات.[c1]* ناقد تشكيلي عراقي مقيم في بريطانيا [/c]