محمود درويش أنمودجآ "
الشاعر الكبير محمود درويش تغري جمهور غفير من قراء الشعر العربي رغم ما يكتنف بعض صوره الشعرية من غموض حد الاستغلاق والابهام المفرط جراّء خروجه المستمر عن انماط الصور البلاغية المتعارف عليها في الشعر العربي قديمه وحديثه . وهو أي الشاعر درويش لا يفتأ يخلق اشكاليات متعددة في علاقته مع متلقيه ويرى ان قصائده تتجدد وان من طقوسه الشعرية الاستغناء عن القصائد التي يكتبها ويرى بعد حين ( شهر او شهرين من خزنها في الادراج ) ان نصها مشابه لنص سابق ، ليحلو القول عنه بأنه شاعر لا يعرف التكرار .. والحقيقة ان الشاعر الفلسطيني محمود درويش له حضوره المتميز في الذاكرة الثقافية العربية وهواجس الايقاع الشعري مستحوذة على مخيلته وهذه الديمومة مفعمة بالعمق في تجربته الشعرية وكتابته للشعر في هذا الهزيع من العمر . وللشاعر دواوين كثيرة وقصائد تترى وتتداخل مفاهيمها حتى صارت مثيرة للجدل .. يكتب الشعر لنفسه ويكتبه لقرائه .. فهل هو شاعر جماهيري ام شاعر نخبوي او كلاهما معاً فهل يرضى ان يكون شاعر القضية وشاعر المقاومة الفلسطينية .. الواقع ان محمود درويش يحتج على محاصرته في نمطية معينة وحتى الشاعر الفلسطيني سميح القاسم رغم اعتزازه بأنه شاعر فلسطيني وشاعر القضية والمقاومة ولكنه يؤكد ان اعماله الشعرية مفعمة بالوجع القومي والانساني ايضاً لهذا فهو يحتج ايضاً على مفاهيم سايكس بيكو في الثقافة هؤلاء ملوك الشعر الفلسطيني يرفضون نظرة الاخرين لهم بأنهم شعراء القضية الفلسطينية . ومحمود درويش شاعر فذ ومن الصعب ان نغمطه حقه وقد صنع لنفسه مكانة عالية في الذائقة العامة والوعي العام العربي لا سيما عندما تماهت شخصية الشاعر مع ذاكرة الجماهير في قصيدتيه الرائعتين " سجل انا عربي " و " جواز سفر " والذي قال عنهما الشاعر ذاته انهما ساهمتا في انتشاره شعرياً . فماضي الشاعر الفلسطيني درويش كانت فيه حدة وطنية وقومية وان ما كان يكتبه تلبية لنداءات داخلية وخارجية وان هذه القصائد في نظره جزء من ذاكرة جماعية ولم تعد ملكه ابداً .. ويبدو لي ان محمود درويش بعد الثمانينيات طفق نضجه الشعري منحى آخر فهو يعتقد في باكورة انتاجه الشعري انه قد ارتكب الكثير من الحماقات لهذا فقد تخلى عن مجموعته الاولى " عصافير بلا اجنحة " لأسباب فنية جمالية وتخلى عن اكثر قصائد ديوان " اوراق الزيتون " لاسباب جمالية وسياسية .. ولم يجد حرجاً في التخلص من القصائد التي يكون فيها للشعار السياسي حضور بارز .. أليس هو القائل :" لا أخجل من طفولتي الشعرية .. وهذا هو المبرر الوحيد على قطع بعض اجزاء من جسدي الشعري " . ويقول درويش ايضاً " ليس للشاعر ان يقدم برامج سياسية للقارئ " ففلسفته بالتخلي عن جزء كبير من قصائده الاولى مردها ما أسماه " الخلاص الجمالي من الازمة التاريخية المعاصرة " . حتى قصيدته " عابرون في كلام عابر" يقول درويش كتبت بدافع من الغضب اللامحدود عندما شاهدت كيف يقوم جنود اسرائيليون بتحطيم عظام فتية فلسطينيين بالحجارة وهي ترمز الى ما نتعرض له من قمع كتبت ذلك النص كاحتجاج لكنها لم توجه ضد اليهود الاسرائيليين انها ضد المحتلين هذه قصيدة انتفاضية وهي لا تعكس صوتي الخاص بل هي الصوت الجماعي لشعب غاضب ومقاوم للاحتلال . ان حاسة النقد الذاتية عند الشاعر الكبير محمود درويش جعلت مأساته ومأساة شعبه يطغي عليها النبرة الانسانية فالقصيدة السياسية قد استنفدت اغراضها في رأيه الا في حالات الطوارئ الكبرى .. فهو يرضى ان يكون شاعر الوجود وشاعر الوجع الانساني ويطمح ان تخترق قصائده زمنها التاريخي وتحقق شروط حياتها في زمن آخر . يقول الشاعر محمود درويش !! ان تاريخ فلسطين كان دائماً تاريخياً متعدداً .. فالاسرائيليون يريدون ان يبدأ تاريخ فلسطين مع تاريخهم أي منذ القرون التي سكنوا وسادوا في الارض كما لو ان التاريخ تبلور بحيث لم يوجد شيء من قبل ولن يوجد شيء من بعد ودولة اسرائيل حسب هذا التصور تمثل امتداداً طبيعياً لهذا التصور اما نحن فنعتقد ان تاريخ فلسطين هو تاريخ متعدد انه تاريخ يجمع ما بين سكان ارض الرافدين والاشوريين والمصريين والرومانيين والعرب ولاحقاً العثمانيين ربما تاريخ فلسطين تشكل من خلال العنف ولكن هذا لا يمنع انه ثمرة التقاء كل هذه الشعوب ان هذه التعددية ثراء وانا اعتبر نفسي وريثاً لكل هذه الثقافات ولا اتضايق البته في التصريح بوجود جزء يهودي في " . وبالمناسبة فان الشاعر محمود درويش يدين العمليات الانتحارية التي تستهدف مدنيين ويرى ان الانتحاري هو من يمنح حياته من اجل قضيته يعتقد انها عادلة وان الاسلاميين الذين يقتلون اسرائليين مدنيين لا يفرقون بين الجلاد والضحية . وفي حوار مع صحيفة ليبراسون الفرنسية حول وجود نقاط مشتركة بين المأساة القديمة والمأساة التي يسببها الصراع الاسرائيلي الفلسطيني يجيب الشاعر درويش بسخرية : في المأساة الاغريقية يوجد تعدد آلهة نعثر من بينها على من هي حساسة وحنونة على ضحاياها في الوقت الراهن لا يوجد سوى إله واحد وهو إله امريكي وانا على المستوى السياسي والشعري افضل تعددية الآلهة على التوحيد . يقول غسان مطر ان محمود درويش مأزوم فكرياً هو في قديمه غيره في جديده وان تلميحاته ما هو اقسى من معنى التعايش والتفاهم وانه يحاول انسنة العدو .. اما درويش يرى ان الإسرائيليين ليسوا ملاك وليس كلهم شياطين وكراهيتهم لا تفيد من تشويه كونهم بشراً فهو لن يعادي انساناً ولو كان اسرائيلياً وهو من كثر تطوافه على المدن فبيته اصبح في كل مدينة يقوم فيها ولم يشعر بأنه مواطن في أي مدينة ولا يشعر بارتباط عميق حتى برام الله .. وهو يحمل الجنسية الاردنية التي منحه اياها الملك الاردني . ولم يتورع درويش باعتبار التوراة احدى مصادره الشعرية ويضيف ان التوراة كتاب معترف به لدى المسلمين والقرآن امتداد للتوراة والمسيحية ونستشف من حوارات محمود درويش قناعاته ان المشروع الاسرائيلي للتسوية لا يقبله أي فلسطيني وان السلام قد يوصل الفلسطينيين لتحقيق بعض حقوقهم على أرضهم التاريخية وقد قال درويش ذات يوم : فلسطين عليها السلام وفي رأيه ايضاً ان التخلي عن فكرة السلام من جانبنا ستكون الهدية الكبرى للاسرائيليين لان اسرائيل لا تريد السلام .. اننا نلاحقها بضغط السلام : السلام القائم على حد ادنى من العدالة والسلام الذي ادعو اليه من اجل انسانيتي وكي افهم انني لن ابقى ضحية فلا يعنيني ان اكون دائماً ضحية. والشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش يقول ان ذاته الفردية لا تستطيع ان تحرر من ضغط التاريخ ومن ضغط الهوية ومتطلباتها فهو مطالب - مثل أي شاعر فلسطيني بالتماهي مع هويته لانها مهددة فالمثقف - حسب رأي درويش لا يقدر ان يكون متعالياً عن الواقع والسياسه على المثقف ان يكون منشغلاً بصياغة مفاهيم العلاقة بين الحرية والسلام والعلاقة بين الانا والاخر مجال عمله على مستوى الوعي العمل على تغيير وعي الآخر لا ان ينخرط بالسياسة .. لقد قال الشاعر محمود درويش عن قصيدته " محمد الدره " انا متورط مع محمد الدره داخلياً .. وما كتبته في سياق الانتفاضة وليس عن الانتفاضة هو تعبير عن الارتباط العضوي بين اللغة الشعرية ومرجعياتها الوطنية وهو استجابة لتأثير عميق بمشهد اغتيال الطفل وهي قصيدة موضوعية خالية من ثراء بلاغي واستعارات جمالية وتلك طريقة شائعة في الشعر الغربي " ومحمد الدره " والقربان " استجابة لضغط الحدث التاريخي على اللغة الشعرية والضمير الشعري وليستا مجرد استجابة للواجب الوطني وامام العنف على اللغة ان تفتر لكي يسمع همسها لان ضجيجها لا يسمح .. ويعرف درويش نفسه بأنه شاعراً طروادياً قائلاً : الشروط التاريخية هي التي جعلت الفلسطينيين - وانا منهم - ضحايا وهكذا فأنا أجهد نفسي على التعبير عن وعي الخاسر وعن الضحية . وعودة الى ظاهرة الغموض في شعر محمود درويش فانها تستند الى خبرته الخاصة وثقافته المميزة بحيث يملك شجاعة الربط بين كلمتين لم تقترنا أبداً من قبل ففي قصيدته " رأيت الوداع الاخير " استهل درويش قصيدته هكذا : رأيت الوداع الاخير : ساودع قافية من خشب . أنظر غرابة : قافية من خشب اين وجه الربط بين كلمتي قافية وخشب يقول الدكتور عادل الاسطة في هذا السياق اليس النعش الذي يصنع من خشب هو نهاية مطاف المرء ؟ وثمة تشابه اذن بين النعش والقافية التي هي نهاية البيت الشعري ومحمود درويش شاعر وله صلة وثيقة بالقافية وقد اصيب ذات مرة بنوبة قلبية فقد على اثرها الحياة دقائق ذكرته هذه بنهايته وتخيل حثته في تابوت فكتب من هذا : سأودع قافية من خشب ! وقصيدته " عندما يذهب الشهداء الى النوم " عندما يذهب الشهداء الى النوم اصحو واحرسهم من هواة الرثاء اقول لهم : تصبحون على وطن / من سحاب ومن شجر / من سراب وماء وتصبحون على وطن . يرى الشاعر درويش وكل شاعر مرهف انها تعبير جميل بدلاً من تصبحون على خير وهو تعبير مميز يزكي المخيلة وينشطها . وقصيدة " القلب المثقوب بالطاووس بالنسبة لمحمود درويش صورة في منتهى الوضوح نعرف كيف يفرش الطاووس غروره ويطلق بذلك احتفالاً لونياً اذ ذاك يثقب أي قلب .. وهذه صورة اعجبتني وليس عندي دفاع علمي عنها . وحتى قصيدته " انا يوسف يا ابي " يستطيع المرء ان يستشف منها اشياء اذا ألم بما ورد في سفر التكوين وفي القرآن الكريم عن قصة النبي يوسف عليه السلام لقد استلهم الشاعر التراث وتمثله للتعبير عن تجربة انسانية تتكرر مع أي انسان على هذه الارض . يقول درويش ان القصيدة السياسية استنفذت اغراضها في رأيه الا في حالات الطوارئ الكبرى وان ليس للشاعر ان يقدم برامج سياسية للقارئ وانه لا يكف من تعميق تجربته الشعرية والانسانية يوماً عن يوم ويقول كذلك انه لا يستطيع التحدث عن فلسطين الان الا بكثير من الاحباط .. وعن نظرته لقصيدة النثر يقول ان الشاعر باسترناك قال ذات يوم " اجمل ما في القصيدة ذلك السطر الذي يبدو نثرياً " وهذا القول يعجبني . ولا داعي للسجال الذي تجاوزه العالم وليس لدى تحفظ على قصيدة النثر . فأثناء مرض درويش في مارس 2005م اعتقد الشاعر انه مرض الموت فكتب قصيدته " جدارية " محاولة منه لهزم الموت يقول الشاعر في هذه القصيدة . هذا هو اسمك / قالت امرأة / وغابت في الممر اللولبي / أرى السماء هناك في متناول الايدي / ويحملني جناح حمامة بيضاء صوت طفولة اخرى / ولم احلم باني كنت احلم كل شيء واقعي / كنت اعلم انني ألقي بنفسي جانباً / واطير / سوف اكون وساصير في الفلك الاخير وكل شيء ابيض / فانا وحيد في نواحي هذه الابدية البيضاء / جئت قبل ميعادي فلم يظهر ملاك واحد ليقول لي :" ماذا فعلت هناك في الدنيا / ولم اسمع هتاف الطيبين ولا انين الخاطئين انا وحيد في البياض / أنا وحيد .. ومحمود درويش لا تفتأ امسياته الشعرية ان تقام حتى يتشاحن عليها جمهور كبير و لاتزال حرارات التصفيق تشعره بالغبطة والسرور لجلال الشعر . . يقول درويش : كلما تساءلت هل ما زال الشعر ممكناً وضروريا جئت الى سورية لاعثر على الجواب . هذا هو الشاعر الكبير محمود درويش شاعر الوجود وشاعر الوجع الانساني وهواجسه.و له شعر مؤثر في الوطن والقضية الفلسطينية وحواراته تفلسف من رؤاه الشعري. المراجع 1- معرض مكتبة الاسد في دورته الحادية والعشرين ، ماهر منصور " النور " 7/9/2005م 2- في حوار مع صحيفة ليبراستون الفرنسية ترجمة محمد المزديوي من المغرب . 3- جريدة السفير 18 تموز 2001م . 4- محمود درويش : تخليص الشعر مما ليس شعراً، د . عادل الاسطه . 5- العربية نت 10/12/2005م . 6- محمود درويش يوقع كتابه " كزهر اللوز او ابعد " يوسف ابو لوز . 7- دار الخليج 4/12/2005م 8- محمود درويش والتفعيلة المنثورة عن الايام 6 صبحي حديدي . 9- درويش في حواره مع " الرأي " .