الفقيد/ عبدالله باذيب (يساراً) مع الرئيسين سالم ربيع علي (سالمين ) وعبدالفتاح إسماعيل في مراسيم افتتاح المسرح الوطني بالتواهي
يصادف اليوم ذكرى مرور (34) عاماً على رحيل المفكر والسياسي اليمني عبدالله باذيب في 16 أغسطس 1976 م الذي كان أول من رفع شعار (نحو يمن حر ديمقراطي موحد) . وبهذه المناسبة يسر صحيفة (14 أكتوبر) أن تحيي ذكرى الفقيد الراحل اعترافاً بدوره في حركة النضال الوطني من اجل التحرر والاستقلال والوحدة ، ومن أجل تعريف الجيل الجديد بالمآثر الكفاحية البطولية للآباء المؤ سسين للحركة الوطنية اليمنية المعاصرة التي ناضلت ضد الاستبداد والاستعمار، واسهمت في قيادة مسيرة الثورة اليمنية (26 سبتمبر - 14 أكتوبر) منذ شبابه المتقد بالحيوية والاستعداد للتضحية والتمسك بالأهداف الوطنية خاض المفكر الوطني الكبير عبدالله عبدالرزاق باذيب معارك سياسية وعسكرية دفاعاً عن الهوية اليمنية للجنوب المحتل، وتعبيراً عن ضمير المثقف الوطني الذي انتصر منذ وقت مبكر لتطلعات وحقوق شعبنا الوطنية المشروعة في الحرية والاستقلال والوحدة.
عبدالله باذيب وسط عدد من رفاقه أثناء محاكمته الشهيرة في منتصف الخمسينات أثناء الحكم الاستعماري
كتب عبدالله باذيب سلسلة من المقالات التي دافعت عن الوحدة اليمنية وتصدت للأفكار الانعزالية التي استهدفت فصل عدن والجنوب عن اليمن، وسعت الى تسويق مفاهيم استعمارية وسلاطينية عن هويات عدنية وجنوبية وحضرمية مستقلة، بهدف تمرير المشاريع الاستعمارية وتكريس التجزئة والتبعية ومحاصرة كفاح شعبنا اليمني في الجنوب المحتل من أجل حقوقه المشروعة في الاستقلال الناجز واستعادة وحدة الوطن. في هذا السياق كتب المفكر الوطني الراحل عبدالله باذيب مقالاً في صحيفة «النهضة» عام 1955 بعنوان( المسيح الجديد الذي يتكلم الانجليزية) منتقداً دعوته إلى الدفاع والتسامح والمحبة بين سكان الجنوب المحتل وحكامهم من المستوزرين والسلاطين والامراء الذين سخروا كياناتهم لخدمة الاستعمار مقابل الحصول على حمايته لتلك الكيانات الهزيلة التي كان يجري التخطيط لتوحيد بعضها في دويلة اتحادية سلاطينية تحت مسمى دولة الجنوب العربي، الى جانب دويلات اخرى مستقلة في حضرموت والمهرة وسقطرى.وبعد نشر هذه المقالة نظمت السلطات الاستعمارية محاكمة للمفكر الوطني الراحل محاولة إثارة الكراهية بين السكان وحكامهم «الشرعية» بحضور خصمه في هذه المحاكمة محمد علي باشراحيل مؤسس صحيفة «الأيام» وكانت الجماهير تحتشد منذ الصباح الباكر لكل جلسة من جلسات المحاكمة تعبيراً عن تضامنها مع عبدالله باذيب ودعمها لمبادئه وأفكاره التي دافع من خلالها عن وحدة الوطن اليمني في مواجهة المشاريع التي استهدفت سلخ الجنوب المحتل عن كيانه الوطني، وطمس هويته اليمنية وتلفيق هوية بديلة له.وفي هذا الملف تسلط صحيفة «14أكتوبر» إضاءات على واحدة من المحطات الكفاحية التي تجسدت فيها مشاركة الفكر اليمني في مناهضة الثقافة الاستعمارية والسلاطينية، ورفع بيارق الكفاح من أجل الحرية والاستقلال والوحدة. حيث يشكل إحياء السيرة الكفاحية الوطنية الوحدوية للرواد الأوائل من قادة الحركة الوطنية اليمنية، واجباً وطنياً لمواجهة رواسب الأفكار والمفاهيم الاستعمارية والسلاطينية التي تعترض مسيرة بناء وتعزيز اليمن الحر الديمقراطي الموحد وقد كان القائد الوطني الراحل عبدالله باذيب أول من رفع شعار (نحو يمن حر ديمقراطي موحد)، وأول من تعرض للمحاكمة بسبب أفكاره الوطنية في مجرى الكفاح الوطني التحريري من أجل الحرية والاستقلال والوحدة . ولد في منطقة الشحر بمحافظة حضرموت في 1931 وتوفي في 16 آب (أغسطس) 1976 إثر نوبة قلبية . تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في عدن، واضطر إلى ترك السنة النهائية في المرحلة الثانوية لظروف أسرته الصعبة. وعلى الرغم من ذلك تمكن عبدالله باذيب بالاستناد إلى ثقافته الذاتية أن يلفت الأنظار إليه في الوسط الثقافي والاجتماعي وهو لا يزال طالباً .وتنوعت قراءاته بين الأدب والتاريخ والفلسفة والسياسة. وكرس شبابه للتعليم الذاتي حتى اصبح ضليعاً بقواعد اللغة العربية وعلوم القرآن ومتفوقا في التحدث والكتابة باللغة الانجليزية واللغة الروسية والترجمة من والى هاتين اللغتين . في عام 1949 أصدر مجلة “المستقبل” الشهرية وهو في السنة الأولى من المدرسة الثانوية، وكان المحرر الرئيس في المجلة. واتسمت “المستقبل” بمستوى رفيع في اللغة والمضمون الأمر الذي جعلها تقف في مصاف المجلات الثقافية والأدبية التي كانت تصدر في الوطن العربي في ذلك الوقت. ومثلت ‘المستقبل’ مرحلة مهمة في حياة عبدالله باذيب بما عكسته من طموح في تجديد الحياة الأدبية والثقافية والاجتماعية بعيداً عن أنماط التفكير التقليدية ، الأمر الذي جعلها تواجه بحملات مضادة من الأوساط المحافظة وبعض المتاجرين بالدين لكنها مضت في خطها غير عابئة بكل ذلك ، إلا أنها اضطرت إلى التوقف بعد عامين ونيف من صدورها . عمل عبدالله باذيب بعد ذلك محرراً في صحيفة “النهضة“ ثم سكرتيراًً لتحريرها وكانت أشهر الصحف الأسبوعية التي تصد ر حينذاك . وفي هذه الفترة برز اسم باذيب كاتباً سياسياً مرموقاً ومفكراً وطنياً تقدمياً يتسم بوضوح الرؤية وبعد النظر واستشراف المستقبل ، إضافة إلى أسلوبه اللاذع . لم تتحمل السلطات الاستعمارية البريطانية كتاباته بما حملته من مفاهيم وطنية جذرية ، فما أن نشر مقاله “المسيح الجديد الذي يتكلم الإنجليزية” الذي يرد فيه على الكتابات التي كانت تدعو في تلك الفترة (1955) إلى التعايش مع الحكام حتى اعتقلته السلطات وقدمته إلى المحاكمة بتهمة “إثارة الكراهية والعداء ضد الحكومة وبين طوائف وطبقات السكان” . وقوبل هذا الإجراء بغضب شديد في أوساط واسعة من الشعب، وتنادت كثير من الشخصيات الوطنية والمنظمات السياسية للوقوف ضد المحاكمة. وعقدت المحاكمة وسط تظاهرات وحشود للجماهير، وهو أمر لم تشهده مدينة عدن من قبل. وأرغمت ردة الفعل الشعبية المحكمة على أن تصدر حكماً مخففاً في القضية.إلا أن المحاكمة شكلت نقطة تحول في مسار الحركة السياسية الناشئة، وكانت مؤشراً قوياً لنهوض سياسي أخذت ملامحه تبرز بعد عام واحد فقط من هذه المحاكمة. أولى باذيب في منتصف الستينات اهتماماً خاصاً لتنمية الوعي السياسي والفكري للمجاميع العمالية والنقابية الناشئة وتوجيهها لتنظيم صفوفها ، وعندما شعر أن السلطات تنوي نفيه خارج عدن، بعد أن تسربت معلومات حول هذا الموضوع ، قرر الخروج إلى تعز في شمال اليمن في أواخر 1958. ومن هناك أخذ يواصل نشاطه السياسي والفكري من خلال إصدار صحيفته “الطليعة”. وبالرغم من كل الصعوبات التي واجهها في مستقره الجديد إلا أنه مضى بدأب وإصرار يحمل لواء الدعوة إلى وحدة كل القوى الوطنية من أجل مواجهة المشاريع المشبوهة المطروحة حينذاك والتي تمثلت في “اتحاد إمارات الجنوب” و “الحكم الذاتي لعدن” وربطها بعلاقات أوثق بالاتحاد ، وتعزيز القواعد العسكرية في المنطقة ، إضافة إلى التسلل الاقتصادي والسياسي الأميركي في الشمال. وبعد فترة قصيرة من صدورها ( 13 عدداً ) أغلقت السلطات الصحيفة بتحريض من الدوائر المرتبطة بالمصالح الأميركية. كان العمل الصحفي هو الغالب على نشاط عبدالله باذيب في البداية ، وتعددت الصحف التي عمل بها لفترات قصيرة : النهضة،البعث، الفجر، الجنوب العربي و الفكر إلى جانب إسهامه في تحرير صحف أخرى وفي كل مرة كان يترك هذه الصحف بعد وقت قصير من العمل فيها إما لخلاف مع أصحابها أو لغلقها من قبل السلطة. وما إن عاد عبدالله باذيب إلى عدن في 1961 حتى بدأ يفكر جدياً في تأسيس تنظيم سياسي بعد أن أخذ التوجه الذي عمل من أجله يبرز كتيار نامٍ مؤثر في الحركة السياسية ، وفي 22 أكتوبر من العام نفسه تأسس “الاتحاد الشعبي الديمقراطي” بقيادته لتبدأ مرحلة نوعية جديدة في حياته الحافلة بالأحداث المهمة، وكان اول حزب سياسي يرفع شعار ( نحو يمن حر ديمقراطي موحد) . كان “الميثاق الوطني” للحزب هو أول برنامج سياسي في تاريخ الحركة الوطنية اليمنية ينص على أهمية الاستناد في تحديد مهمات الحزب الجديد إلى واقع البلاد وخصائص ظروفها وطبيعة المرحلة التي تمر بها. كما أن من أبرز ما ميز التنظيم الجديد شعاره “نحو يمن ديمقراطي موحد” وبذلك كان في طليعة التنظيمات اليمنية التي أكدت وحدة الشعب اليمني و الطابع الديمقراطي لهذه الوحدة. وعدّ “الميثاق” الاستعمار هو “العدو الأساسي والأشد خطراً... وإليه يجب أن توجه الضربة الرئيسية». وفور قيام ثورة 26 سبتمبر عام 1962 ، سارع عبدالله باذيب إلى تأييدها بمختلف السبل وشكل مع رفيق دربه الشهيد عبدالله عبدالمجيد السلفي لجنة وطنية لارسال المتطوعين والتبرعات الى مجلس قيادة الثورة في صنعاء, وأصدر التنظيم الذي يرأسه بيانا يحدد الأهداف والمهام التي تنتصب أمام الثورة الوليدة ، فأكد البيان أن “المهمة الرئيسية المطروحة الآن أمام شعبنا ... هي صيانة الجمهورية الفتية وضمان سيرها في طريق التطور الوطني المستقل” وأكد البيان بصورة خاصة أن من أبرز مهام الثورة مساندة الشعب في الجنوب في نضاله ضد الاستعمار. وفي عام 1963 اعتقل عبدالله باذيب مع عدد من العناصر الوطنية القيادية البارزة إثر حادث إلقاء قنبلة في مطار عدن على المندوب السامي البريطاني وبعض السلاطين ، ثم أفرج عنهم جميعاً تحت ضغط الرأي العام المحلي والدولي . عندما قامت ثورة 14 أكتوبر المسلحة في جنوب اليمن كان عبدالله باذيب من أوائل الذين أيدوا الثورة فهو قد رأى فيها طريق الخلاص الحقيقي من الاستعمار ، وأدرك منذ وقت مبكر أن الثورة تملك كل شروط البقاء والانتصار . أصدر عبدالله باذيب ، في هذه الفترة صحيفة “الأمل” في يونيو 1965 ، واستخدم هذه الإمكانية بذكاء وفعالية لمصلحة الثورة ، وقد دفع هذا بعض القوى المناوئة لتنظيم الثورة إلى إحراق مطبعة الأمل ونتيجة لذلك توقفت عن الصدور . وفي يناير 1968 أي عقب استقلال الشطر الجنوبي من الوطن مباشرة أصدر عبدالله باذيب وثيقة تحليلية مهمة بعنوان “وجهة نظر حول المرحلة الراهنة - ثورة 14 أكتوبر .. طبيعتها.. مهماتها.. وآفاق المستقبل”، واعتبرت الوثيقة أن المهمة الرئيسية للثورة، بوصفها ثورة تحررية ديمقراطية، هي إقامة حكم وطني ديمقراطي أساسه تحالف قوى الشعب العاملة. وفي هذه الوثيقة طرح باذيب ، لأول مرة بعد الاستقلال ،. ضرورة وحدة كل القوى السياسية المتقدمة . منذ الأيام الأولى للاستقلال لم يكف عبدالله باذيب عن التحذير من أية محاولة للاستئثار بالعمل الوطني واحتكار العمل السياسي، كما فعلت عدد من “الحركات الثورية” في بعض دول العالم الثالث ، الأمر الذي أعاق تطور الثورة في تلك البلدان في الاتجاه الصحيح . وبالفعل حدث ما كان يتوقعه عبدالله باذيب عندما حاول عدد من القادة العسكريين مع بعض العناصر في التنظيم الحاكم الاستحواذ على السلطة فيما عرف حينذاك بـ “حركة 20 مارس1968” واعتقل جراء هذه المحاولة باذيب مع عدد كبير من قادة اليسار في التنظيم الحاكم غير أن الحركة فشلت في تحقيق أهدافها وأفرج عن جميع المعتقلين . بعد خطوة “22يونيو 1969” ، اتخذ تنظيم الجبهة القومية الحاكم عدداً من الخطوات للانفتاح على بعض القوى السياسية الأخرى . وفي منتصف 1970 بدأ الحوار الفعلي بين الأحزاب الثلاثة: الجبهة القومية، الاتحاد الشعبي الديمقراطي وحزب الطليعة الشعبية. ولعب باذيب دوراً رئيساً في مناقشة وبلورة الصيغة التوحيدية الملائمة والممكنة في تلك الظروف حتى تكلل هذا الحوار بالتوقيع على اتفاق 5 فبراير 1975 الذي وضع أسس وحدة الفصائل الثلاث . وتولى باذيب وزارة التربية والتعليم في نهاية عام 1969، وخلال توليه الوزارة أسهم في حل عدد من المشكلات المتعلقة بالتعليم الأهلي وألحقه بالوزارة من حيث الإشراف والتوجيه وأعفى طلبته من الرسوم . كما تحققت للمدرسات إجازة الولادة مدفوعة الأجر ، وأنشئت الإدارة العامة لمحو الأمية وتعليم الكبار ، وتأسست أول كلية للتعليم العالي وهي كلية التربية العليا التي غدت في ما بعد نواة جامعة عدن. في عام 1972 عين عبدالله باذيب وزيراً للثقافة والسياحة التي كانت مجرد إدارة صغيرة للثقافة . وخلال فترة قصيرة تحولت هذه الإدارة إلى وزارة وصار لها كثير من المشاريع في مجالات الآثار والدورات الأكاديمية والفنون بمختلف أنواعها، وفي عهده أنشئ لأول مرة المسرح الوطني وأول معهد للموسيقى والفنون الشعبية . بعد قيام التنظيم السياسي الموحد _ الجبهة القومية _ أنتخب عبدالله باذيب عضواً في لجنته المركزية والمكتب السياسي وسكرتيراً للثقافة والإعلام . وكان هم الفقيد الرئيس في سنواته الأخيرة إرساء أساس متين للعمل الأيديولوجي في الحياة الداخلية للتنظيم السياسي. لا يمكن للمرء وهو يستعرض حياة الفقيد السياسية إلاَ أن يتوقف أمام نضاله من أجل السلم العالمي ومع تبلور رؤيته السياسية والاشتراكية منذ أواسط الخمسينيات أخذ اهتمامه بقضية السلم يزداد ترسخاً وغدا نشاطه في هذا المجال جزءاً لا يتجزأ من نضاله الوطني والاجتماعي. وفي عام 1968 شكل عبدالله أول لجنة يمنية للسلم ، واختير في العام نفسه عضواً في مجلس السلم العالمي وفي 1974 عضواً في الهيئة الرئاسية للمجلس تتويجاً لدوره البارز في النضال من أجل مثل السلم والتحرر والتقدم .