قصة قصيرة
الدكتور/ الخضر عبدالله حنشلتجلت لعيني في لحظات الوجد والحنين قرية صغيرة آية في الجمال والروعة، بيوتها مبنية من الطين والحجارة تحيط بها المزارع من كل ناحية.يا لها من صفحة ناصعة لا يجرؤ الزمن على طمس معالمها .. كنت حينها قد درجت في مدارك الوعي عندما كانت جدتي تقعد على سريرها الخشبي في بهو منزلنا الرابض على ربوة حالمة يطل منها على مزارع الذرة كانت جدتي بحق هي بهجة ذلك المكان فهي سعيدة منشرحة الصدر لا يعكر صفو ودادها سوى الدجاج والكلاب التي تحوم حولها، وكانت مهمتي بالدرجة الأولى الذود عند حياض الجدة، ومطاردة كل ما يؤذيها فضلاً عن مهمة حراسة المزرعة من قراصنة الجو (الطيور) والمواشي الجائعة .. وفي ذلك اليوم بالذات لم ألتفت إلى هذه المهام ابداً .. فقد كنت منشغلاً شارد الذهن أحرك عجلات المذياع وكان هذا ليس من عادتي ان احمل مذياعي الصغير في وقت الضحى.فمثل هذا الوقت لا يكون الا للعمل فقط .. حين شارفت الساعة العاشرة بدأ المذياع في بث رسائل الأصدقاء حينها ظننت أن ساعي البريد قد أضاع ورقتي التي سطرت فيها كل ما جال بخاطري لبرنامج مع المستمعين وعلى حين غرة حشرج المذياع، وجاء صوت المذيع المخضرم مدوياً يسابق تباريح الريح (مرحباً بصديقنا الجديد، واليوم مع أولى مساهماته) في هذه الأثناء صرخت جدتي بصوتها ثم توالت صرخاتها من دون أن أنتبه لها .. ولم اشعر بها الا حين رأيتها تهوي ناحيتي وفي يدها عصاها فقمت مهرولاً صوب المزرعة ورشقت العصافير بالحجارة، وعدت مسرعاً، ولكن بعد فوات الأوان فقد أغمي على مذياعي المهترئ بعد أن وكزته جدتي بعصاها .. ومع ذلك فقد حرصت لاحقاً على المساهمة في هذا البرنامج .. وتدرجت في مراحل العمر فأكملت الثانوية والجامعة والعسكرية ثم صرت محاضراًَ .. وكلما آنست من يومي يقيناً راودني في صحوتي صوت جدتي، وصوت المذيع المخضرم، وصوت العصافير وحشرجة المذياع وصار الحنين حريقاً يشتعل بين ضلوعي، ولم أعد أنعم بوصل تلك الأيام الخوالي، ولم يستطع حاضري أن يلون ماضي بلونه الشاحب ..وخيل إلي أن جدتي ومذياعي والطيور والمواشي يرقدون في مكان ما .. وتلك هي ملحمة الحياة التي أجهدت خيالي فيها بحثاً عن أبطال تلك الملحمة، وشعرت أن أنبل ما في جسمي ينحني إجلالاً وتقديراً لهم ..وجمح خيالي فهاجت الذاكرة وصرت أتململ على فراشي في جوف الليل حتى تفصد جبيني عرقاً فنهضت مذعوراً وعلمت أن انقطاع التيار الكهربائي كان السبب في نزول العرق، وأدركت حينها أن كل ما حدث كان مجرد صدى حلم لا أكثر.
