في شعر ياقوت
محمد نعمان الشرجبيأما قبل،الشعر كما نعلم هو الكلام ذو المعاني التي لا يحتملها الكلام العادي، وليس في الشعر بينَ بينْ، فإما أن تكون شاعراً أو لا تكون على حد زعم الشاعر (نزار قباني) وأن تكون شاعراً أن تقول شعراً وعبده علي ياقوت من هذا النوع، غير ملتفت إلى موعظة (الشيخ البخاري).وشيخ البخارى ينادي لنا[c1] *** [/c]إلى الفقه ما الشعر إلا الضلالوياقوت كشاعر غنائي يقول ما ليس لغيره النطق به، على ذلكم النحو، يجوس الشعر بداخله، وبعد الاختمار ينطق لسانه به شعراً، فيصل إلى المتلقي باهي الوقع والتأثير، وللدلالة نردد معاً مقطعاً من وفاء الفراشة:فراشة أوعدت زهرة [c1] *** [/c]وجت في وعدها المحدود فكم مرت على زهرة[c1] *** [/c]وكم مرت على عنقود وفت للوعد بالموعد[c1] *** [/c]وجت للزهرة الموعودوحقاً مثلث الفراشة نموذجاً للالتزام وكانت الركيزة المضمونية (للمشهد المشهود). وللعلم، فليس كل قول منظوم يدعى شعراً. على أن ياقوت ينظم أنواع الشعر وفي الأعم الأغلب منها أجمل تخيلات المعاني التي تتوافق والتلاحين الغنائية:كان الجواب ابتسامة سحر في الثغر[c1] *** [/c]وعاد يجري كأنه لم يكن يدريهل قد فهم ما قصدته أو نوى هجري[c1] *** [/c]يا حيرتي يا عذابي يا ظنون فكريوهو بهذه الحالة من الحيرة، ربما كان واقعاً تحت تأثير التكييف النفسي، بمعنى إلا ندم غام مع الظروف المفروضة، وهو بهذا الشأن، تعامل مع الظروف هذه برفض تقبل الأشياء التي لا سيطرة له عليها أو استحالة تعاطيها على أنها حالة من حالات الضيق والضجر.وما وصلت إليه حالته من الهجر، والحيرة، والعذاب وظنون الفكر، ذكره (بسطيح) الكاهن، الذي قال فيه البردوني:[c1]قرأت في فنجان مستقبلي [/c]إني أرى ما لا ترى يا (سطيح)-1-واحسب أن هذا التعب النفسي الذي تتحمل القصيدة بعضاً منه يعتبر جزءاً ضرورياً من بنيتها، بأسلوب يكاد يذوب من الرقة.ومن مفهومه السلبي للتكيف في قصيدته الغزلية الملحونة سالفة إلاشارة، يصح فيه بيت شهير للشاعر يحيى عمر:أسفاً عليك يوم خنت عهدي[c1] *** [/c]وليس تنكر حصبتي وتجحد ومن المهم التذكير أن المفهوم الإحباط في بعض قصائد ياقوت، إعاقة السلوك والخروج عن مجراه الطبيعي الذي لا يقود إلى إشباع حاجاته. هذا الإحباط له مضاره الاجتماعية، وعلى الأخص في حالات العزلة والوحدة.قد كان لا يصحو ولا يرتوي[c1] *** [/c]واليوم لا يسلو ولا يهوىيود أن يهوى فينحب و الهوى[c1] *** [/c]ويشتهي ينسى فلا يقوى1 - (سطيح)، كاهن جاهلي، كان يتنبأ بما سوف يحدث..وعن يقين أحسب ادعاءهم الجماعي بأن الإنسان إذا بلغ السادسة والثلاثين من العمر، هي في تقديرهم سنوات النضج الذي يقترب فيه من مدماك الحكمة، وينعتون الأربعين بسنوات الطيش.. فما بالكم فيمن زاد قليلاً على ما ذكروا. ما ذكروه هذا عناه الشاعر (الزبيري بن أبي بكر) في حضرة أمير المؤمنين (المعتز بالله) هكذا:إني عرفت علاج القلب من وجع[c1] *** [/c]وما عرفت علاج الكذب والخدعولطرحنا القائل ليس كل قول منظوم يسمى شعراً، وهو ليس بشعر أيضاً ولو كان موزوناً، هذا من ناحية بين الشعر وبين الغناء.* في هذا الاتجاه تحدث معي ياقوت في معمل التنجيد الذي يعمل فيه الشيخ عثمان، وكان حصيف القول، وقبل الحديث قال هكذا:لأن المغني أحب كثيراً[c1] *** [/c]كثيراً ولم يدر ماذا أحبويضني المغني يديه وفاه[c1] *** [/c]وشيء يجلمد حس الطلبويصحو الغرام يرى أنه[c1] *** [/c]على ظهر أغنية من خشب تبسم وأردف قائلاً (معروف عن الشعر أنه نظم الكلام، والبوح به على ما جرت العادة في المخاطبات.لكن الغناء كما أعلم صنعه تحرك أجزاء الشعر على أزمنة، ونغم وطرائق محدودة.) ولما كان للمناقشات الجادة بيني وبينه قيمة فنية رفيعة سألته عن المقصود، بالأزمنة، والنغم، والطرائق المحدودة.أجاب بإيجاز متقن هكذا..أ- الأزمنة، يمكن تسميتها في علم الألحان باسم الإيقاعب- النغم، يعرف بالأنواع اللحنية ومقاماتها ج- الطرائق، من طريقة، والمقصود بها صناعة التلحين شريطة أن يتحول الشعر إلى لحن.ما تقدم من القول، كان لا مناص من ذكره باعتباره أنها أحاديث أسوقها للمرة الأولى، ورأيت أنه من العيب حجبها عنكم، لمعرفة مكانة الفقيد الشاعر عبده علي ياقوت في حذق الشعر وثقافته.كان يحكي يبكي، يجيب ينادي[c1] *** [/c]يدعي، يشتكي، يصافي يعاديهل تخافون أن أموت؟ حياتي[c1] *** [/c]لم تحقق شيئاً تثير افتقاديوهو بعد ذلك عندي من الشعراء والرواة المعدودين. وإذا كان الشعر، ومذهية قراءات وحفظ وتجارب تسبق الإمساك بمقود الشعر، ينبغي علينا من باب الأمانة التعرض إلى ما قالوه عن أولى قراءات ياقوت. قالوا إن ياقوت عندما كان يستمتع بقراءة كتب العبسي عنترة أثار انتباهه، واستوقفته قصيدة عنترة التي ألقاها في حضرة الملك النعمان بحسب قول الرواة، ومنها:جفون العذارى من خلال البراقع [c1] *** [/c]أشد من البيض الرقاق القواطعإذا جردت ذل الشجاع وأصبحت[c1] *** [/c]محاجرة قرحى بفيض المدامعسقى الله عمي من يد الموت جرعة[c1] *** [/c]وشلت يداه بعد قطع الأصابعكما قد قاد مثلي إلى الردى [c1] *** [/c]وعلق أمالي بذيل المطامعأيا صادحات الايك إن مت فاندبي[c1] *** [/c]على تربتي بين الطيور السواجعوللعلم سبقه إلى قراءة عنترة شعراء كثر يشار إليهم بالبنان وعلى سبيل المثال لأ الحصر، الأديب محمد سعيد جراده، ونحن وآخرون ولا أعدو الحق إذا قلت أن ياقوت تعامل مع قصة العبسي كمتلقي في بادئ الأمر، ومن ثم حلق في عالمه الرحب وأفاقه الواسعة.شاءت الأيام الخوالي تزامن مجيء ياقوت إلى كل من صنعاء تعز زمن صرامة وهلع (المملكة المتوكلية اليمنية)، التي أجبرت الناس، بنص قطعي على تحريم الغناء، بفتوة، لسياف الأمام أحمد وحده فصل الرؤوس عن الرقاب، علماً بأن هذا الإمام لا يقبل بحديث الرسول محمد بن عبدالله القائل:(روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلت عميت) في هذا الاتجاه ساق لي زميلي ياقوت معلومة على جانب كبير من الأهمية عن الإمام أحمد. قال كان الشعب على يقين من القناعة بأن الإمام أحد (الواعظين الدينيين) مع أنها بريئة منه، وأحد أسبابها ما شاهدته أنا في قصرة بتعز من كحول على اختلاف أنواعها.وياقوت في تقديري (دقيانوس) الذي يتمتع بالذكاء.ولا يستريح (لهامان)، وهذا أمر طبيعي، لأن أخلاق ياقوت العالية، ليست من النوع الذي يسعى لسبر أغوار أسرار زملائه. نتوقف هنا ونكتفي بالقدر هذا الذي تطوفنا فيه بمحطات متنوعة عن الفقيد الشاعر عبده علي ياقوت في الرؤية الأولى عنه، وفي التطواف الثاني، نعرج رؤية جديدة بعنوان (الزمان والمكان) في غنائياته.(وهبني قلت هذا الصبح ليل[c1] *** [/c]أيعمى العالمون عن الضياء)وياقوت كان على دراية بهذا الأمر، ولذا كان يسخر منه بقول (أبي العلاء المعري) هكذا:رويدك قد غررت وأنت حر[c1] *** [/c]بصاحب حيلة يعظ النساءيحرم فيكم الصهباء صبحاً[c1] *** [/c]ويشر بها على عمد مساء وما عهدت يا قوت في حين من الدهر (كحاطب الليل) لكني عرفته يعرج على مسارب ودروب الشعر، والأدب والتاريخ ثمل الوطنية، محارب غير هياب بمختلف مناحي نضالات التحرر من الاستعمار البريطاني بعدن.كيف أحكي؟ إنها وطني[c1] *** [/c]حبها من خصبها أخصبوليس بالهين نسيان عطاءاته الشعرية الجميلة، ولا يغيب عن البال الحكايا التي أثيرت حول غنائية، (الفراشة) بديعة المعنى والمبنى، مصحوبة بضجة مفتعلة، حادة التعنيف، والأعم الأغلب من متابعيها على معرفة تامة بتفاصيلها غير السوية. وفي موضع آخر لم ينتصر الشاعر ياقوت للغموض المعتم ولا يعده شيئاً داخلاً في طبيعة الشعر، وهو الذي ترتاح نفسه للوضوح الشعري، ومع ذلك يرفض الاستجابة التي تفسد الفن وتقربه من الابتذال. وفي غنائياته الدلالات الخالية من جموحات خيالية وعاطفية، بمحتوياتها الفكرية، والفنية.. ولهذا عناه البردوني بقوله:كنت في كلما تخط وتملي[c1] *** [/c]سيداً في ضميره الشعب ساده