الموقف الإسلامي الرافض لليبرالية هو في الغالب موقف فطري، وعفوي ومباشر. هو موقف اللحظة. مما يعني أنه موقف جاء من دون تفكير، ومن دون دراسة. ولأنه كذلك جاء من دون أن يكون مبنياً على محاولة فهم موضوع الرفض. هو رفض مسبق. مهما كانت الليبرالية، هي مرفوضة ابتداءً وانتهاءً. في هذه الحالة ليس هناك مجال للسؤال. الجواب، أو الجواب المسبق، يحل محل السؤال. وعندما يختفي السؤال، ولا يعود موجوداً، ولا تعود هناك حاجة للسؤال، فهذا معناه اختفاء العلم، ومعه المنهج العلمي. لأن العلم بحكم طبيعته يبدأ بسؤال وينتهي بسؤال. لا ينتهي العلم إلى يقين نهائي ثابت، ولذلك يبرز السؤال باستمرار، خاصة السؤال النقدي. فالعلم من طبيعته أنه عملية تراكمية مستمرة. من حيث المبدأ، علمياً أو منطقياً، ينبغي أن يكون الموقف من الشيء نتيجة لعملية ذهنية، أو إعمالِ الذهن بما يفترض أنه يحتمل أكثر من نتيجة واحدة محددة سلفاً. عندما تغيب هذه القاعدة، ولا يكون هناك احتمال، بل نتيجة واحدة لا غير، ونتيجة معروفة بشكل مسبق، فهذا يعني تعطيلاً لمبدأ العلم والمنطق معاً، وبالتالي يعني أن العملية الذهنية ليست متوقفة تماماً، بل دخلت حالة من التكرار البليد. بعبارة أخرى، حالة استعادة الموقف ذاته، والرؤية ذاتها بناء على المعلومة ذاتها. كل تغير قد يحصل لما له علاقة مباشرة بالعملية الذهنية، مثل تغير في المناهج، وطرق التفكير، أو تغير في المجتمع والتاريخ يؤدي بالضرورة إلى تغير في المعلومات والمعطيات، كل ذلك لا يلتفت إليه، لأنه لا أهمية له مقابل ما هو معروف سلفاً، أو ما هو موروث. عندما تتبلد العملية الذهنية، وتدخل مرحلة التكرار البليد، فهذا يعني أنها فقدت حيويتها، وأصبحت بمثابة عملية معطلة، بل ومغيبة، مما يؤشر إلى أن فعالية العقل هي الأخرى معطلة، ولا تمارس حضورها المنشود. طبعاً المقصود بالعقل هنا هو العقل باعتباره أداة أو آلية مدركة، أو العقل الذي يعقل الأشياء ويميزها. ليس المقصود العقل باعتباره مادة قابلة للتشكل وفقا لإطارها الثقافي والاجتماعي. الأمر سيكون أكثر منطقية وأكثر تعبيراً عن الحالة الإنسانية لو جاء رفض الثقافة الإسلامية لليبرالية نتيجة دراسة وتمعن لهذا المفهوم، وبالتالي إدراك لمضمونه في البيئة الثقافية التي نشأ فيها، وللتجربة التاريخية التي أفرزته، والانفتاح على تداول مدى أو طريقة التعاطي مع هذا المفهوم. هل من المهم التعاطي معه؟ ما هي مسوغات ذلك؟ هل يمكن استنساخ هذا المفهوم من الثقافة الغربية إلى الثقافة العربية الإسلامية؟ أم أن الممكن لا يتجاوز حدود محاولة تبيئة هذا المفهوم داخل تلك الثقافة؟ هل هناك مشتركات إنسانية في هذا المفهوم تبرر محاولة التبيئة؟ أم أنه مفهوم مغلق في مضمونه ومعطياته وجوهره، وبما ينطوي عليه من قيم وحقوق، داخل الثقافة الغربية؟هل هناك بدائل داخل الثقافة العربية الإسلامية؟ ما الذي يمكن أن يترتب على الاستفادة من التجربة الليبرالية في المجتمع العربي الإسلامي؟ عندما يتحدد الموقف من الليبرالية في إطار مثل هذه العملية الذهنية المفعمة بهذه وغيرها من الأسئلة، يكون الأمر مجرد خيار مبني على أساس عقلاني، وليس بالضرورة أنه لذلك الخيار الأصح أو الأنسب. من ناحية أخرى، ينبغي الانتباه إلى أن اتخاذ موقف من الليبرالية على هذا الأساس، وفي إطار هذه العملية لا يمكن أن يؤدي إلى النتيجة ذاتها عند الجميع. وعليه يصبح الموقف من الليبرالية على هذا الأساس، سواء بالرفض أو القبول، خياراً متاحاً للجميع. خطل الموقف الإسلامي الذي يكفر الليبرالية، أنه من أساسه موقف منغلق على نفسه، ويضيق الخيارات من دون أي مبرر. ومن ثم فهو موقف غير عقلاني، ولا يتفق مع الطبيعة الاجتماعية للإنسان. هذا الموقف الإسلامي ينطلق من مجموعة فرضيات مسبقة، ولا أساس لها. من هذه الفرضيات أن الليبرالية بمعناها، وبما تنطوي عليه من قيم وحقوق، هي مفهوم خاص، حصرياً، بالثقافة الغربية وبالتاريخ الغربي، وبالتالي فهو يتناقض رأساً مع الثقافة العربية الإسلامية.أساس هذا التناقض، كما هو شائع، أن الليبرالية تصطدم مع مقتضيات الشريعة الإسلامية، ومع ما هو معلوم من الدين بالضرورة، أو الدين الإسلامي. وهذا رأي لا يمكن التسليم به على علاته هكذا من دون أن نخضعه لشيء من التدقيق. أولاً إن الكثير من قيم الليبرالية هي قيم إنسانية، وسابقة على التجربة الغربية التي أفرزت الليبرالية. قيم مثل الحرية والفردية والاختلاف والعدل والمساواة، كلها قيم إنسانية موجودة بهذه الدرجة أو تلك، ومعترف بها في الإسلام. يقال مثلاً إن الليبرالية تنادي بالحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي، وأن هذا القانون يتعارض حتماً مع الشريعة. لكن الشريعة هي بحد ذاتها قانون، وما يسمى بالقانون الوضعي قد يتعارض مع قانون الشريعة، لكنه قد يتفق معه أيضاً، حسب نص هذا القانون، وهدفه، والمصلحة التي اقتضته. فرضية أخرى تقول إنه لا يمكن التعاطي مع الليبرالية إلا عن طريق واحد، وهو طريق الاستنساخ الكامل. أو بعبارة أخرى، أن التعاطي مع الليبرالية يقتضي نقلها كما هي في المجتمعات الغربية، ونقل إطارها الاجتماعي، ومترتباتها القانونية والسياسية إلى المجتمعات العربية. ولهذا السبب لا بد من رفضها جملة وتفصيلاً. لكن كيف يمكن أن يحصل الاستنساخ سواء مع مفهوم الليبرالية أو غيره من المفاهيم؟ هذه فرضية فاسدة، لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال استنساخ التجارب والمفاهيم بين الثقافات، وخاصة تلك التي تفصل بينها مسافات واسعة من التاريخ والتجارب والمكونات الاجتماعية. هناك شيء اسمه التاريخ، والحدود التاريخية للتجارب والمجتمعات، وكذلك المفاهيم. نعم هناك مشتركات إنسانية تقع عند تخوم تلك الحدود، لكن مضمون هذه المشتركات يتحدد داخل تلك الحدود نفسها. فمثلاً قيمة الحرية هي قيمة إنسانية مشتركة. لكن معنى الحرية، وحدودها، ومقتضياتها تختلف من مجتمع لآخر، ومن مرحلة تاريخية لأخرى حتى داخل المجتمع نفسه. وبالتالي فإن الحديث عن الحرية التي تدعو إليها الليبرالية بأنها تهدد المجتمعات الإسلامية، وتتناقض مع الشريعة الإسلامية، هو من نوع الحديث الذي يلقى على عواهنه لأغراض لا علاقة لها لا بالحرية كقيمة إنسانية، ولا بالشريعة كإطار قانوني في المجتمعات الإسلامية. ومثل ذلك الحديث عن القانون الوضعي، وأنه يتعارض دائماً مع الشريعة. كأنه لم يكن هناك قانون وضعي عبر التاريخ الإسلامي، ولا في كل الدول الإسلامية. هذا في حين أن الأمر هو على العكس من ذلك تماماً. ربما جاز لي القول هنا بأنه لم تخل دولة إسلامية عبر التاريخ من سن قانون وضعي. لكن العبرة ليست في كون القانون وضعياً أم لا، وإنما العبرة في مدى تناقضه أو تكامله مع مقتضيات ومقاصد الشريعة. الأكثر من ذلك أن الحديث عن الشريعة يلتبس فيه ما هو وضعي مع ما هو مُنزل. ما المقصود بالوضعي هنا على وجه التحديد؟ ما هو الفرق من هذه الناحية مثلاً بين قانون يسنه مجلس النواب الأميركي، وقانون يسنه مجلس الشورى السعودي، أو مجلس الشورى الإيراني؟ الغريب في هذا السياق أنه كثيراً ما تؤخذ فتوى هذا الشيخ أو ذاك من عصرنا الحديث، أو من العصور الإسلامية السابقة، وتعتبر من الشريعة التي تتناقض مع القانون الوضعي. يحدث هذا في مواضيع مثل المرأة، والاقتصاد، والحكم، كما هو أيضا في موضوع الليبرالية. [c1]نقلا عن / صحيفة (الاتحاد) الإماراتية [/c]
الليبرالية والذهنية البليدة
أخبار متعلقة