( اللون في شعر عبداللـه بن المعتز ) 247هـ - 296هـ
يعد( ابن المعتز ) الحلقة الأخيرة في سلسلة تجديد الشعر في العصر العباسي الثاني، فعلى يده تحول الوصف إلى صور فنية، لتجعل منه أستاذ ( مدرسة الصورة )، حيث شغل النقاد بصوره الأرستقراطية، التي هي صدى لتكوينه ونشأته، ففتح بذلك للشعراء، آفاقاً جمالية ظلت مثار اهتمام، وباعث اقتداء، لما حوته من إبداع التصوير، وروعة التلوين، في ميدان وصف الطبيعة. وقد شكل اللون قوام تلك الصور، التي مثلت لوحات فنية خلابة في خمائل الشعر العربي..شيئان اجتمعا في ( ابن المعتز ): الملك الذي نشأ في عزته،.. والفن المتأمل في طبيعته.. وكأنما القدر شاء له أن يكون شاعراً بين الأمراء، وأميراً بين الشعراء.. وهذا الأمر على ما فيه من تميز ونبل وشرف؛ كان فيه أيضاً مخاطر جمة واستحقاقات مهلكة، فالتقت بذلك خيوط المأساة بخيوط الإبداع، لتنسج قصة تراجيدية المبنى والمحتوى، انتهت أحداثها، بلعنة الملك التي أراقت دمه :[c1]سكنتـــك يا دنـــــيا برغمـــي مكرهاً وما كــان لي في ذاك صنــع ولا أمـــــروجربـــت حتى قـــد قلبتـــك خبرة فأنت وعاء حشـــــوه الهــــم والـــــوزرفإن ارتحل يومــاً أدعك ذميــمــــــــــة وما فيك من دعوى غراس ولا بذر (1)[/c]كان دائم الفخر بنسبه، فلا يدع مناسبة، إلا وعرف فيها عن نفسه.".. عبدالله بن المعتز بن المتوكل على الله بن محمد المعتصم بالله بن الرشيد هارون بن المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور عبدالله بن العباس رضي الله عنه.." (2) إذاً..، فهو من سلاسة كبار الخلفاء العباسيين، الذين أثروا في الحضارة الإسلامية، وبلغوا بها أعظم عصور مجدها وتألقها.. نسب اعتز به شاعرنا، رغم أحداث الدهر وقوارعه :[c1]نحن آل الرسول العترة الحـ ـق وأهل القرى فماذا تريدوملكنا دق الإمامة ميرا ثاً فمن ذا عنا بفخر يحيد[/c]غير أن أمر انتساب ( ابن المعتز ) لبيت الخلافة، وما يعنيه ذلك من شرف ونعيم وترف، لم يكن جله كذلك..!! فحياته تراوحت بين أمن وخوف، ونعيم وشقاء :[c1]ولا يغرنك عيش إن صفا وعفا فـالمـرء من غرر الأيام في غررإن الزمـان إذا جـربــت خــلــقــته مـقسـم الأمــر بين الصفـــو والكــدر[/c]فميراث أسرته في الملك، حطم عموده، وصيره يتيماً قبل أن يشتد عوده..! فأبوه المعتز ".. قتل في رجب خمس وخمسين ومائتين.." (3) ومن قبله جده المتوكل الذي ".. قتل سنة سبع وأربعين ومائتين.." (4) وهكذا؛ اغتال سلطان الخلافة (بصيغتها الوراثية) أفراد أسرته واحداً فواحد!!.. فكان أن غمرت قلبه الأحزان، ونال منه الانكسار، لهذا الأمر الجلل، الذي أصابه في مقتل، قبل أن يزهر غصنه :[c1]ألم تــر أن الـدهــر قطـعــنـي حزا وأصبحني ذلاً، واثكلنــي عـــزاملوك وأخوان ترى بسماحهم من البشر في ديباج أوجههم طرزافــقــدتـهــم مستكــرهـاً وكنزتــهـم ثواباً وأجراً في بطــــون الثرى كنزا[/c]بل إن مصابه في فقدانه الأب صبياً لم يشفع له عند عمه المهتدي الذي أمر بنفيه وجدته الى مكة:[c1]لم يبق في العيش غير البؤس والنكد فاهرب الى الموت من هم ومن نكـــدمــلأت يادهــر عـــينـــي من مكارهـهـــا يادهـر حسبــك قـــد أســرفــت فاقتصــــد[/c]غير أن الدهر لم يقتصد , بل أسرف في ايلامه , وبالغ في تحطيمه , وأمعن في إذلاله بأن جعل أمره في يد عدو قتل أباه , وألزمه الخضوع له , كيما يأمن شره :[c1]لست تنجو من كل ما حدث عنــه فاصحــب الصبر دائماً واتبعنــهوتيقظ إذا أضطررت الى وصـ ـل عدو , ودم على الخوف منه[/c]محنة (ابن المعتز) أنه قد عرف الخوف , وأدرك معانيه , قبل أن يكتمل وعيه , ليعلق به ويلازمه طوال حياته , وليكون مرجعيته وحاكميته التي يحتكم إليها , في كل ما يحيط به فكان أن أصبح الخوف جزءاً أصيلاً ومؤثراً في طبيعته ومتمكناً منه بمستوياته المتعددة (قلق , حذر , توجس ..) ... فما أكثر العيون المترصدة خطواته !؟ بل والمتوجسة من سكناته !! .. تترقب فرصة النيل منه ... أليس هو ابن الخليفة (المعتز) ؟؟ أو لم يكن قاب قوسين أو أدنى من عرش الخلافة :[c1]نفس كوني ذات خوف واتقاــء واجتنــاب لا تظنــي الناـس ناساً أي أســد في الثـيــــــاب [/c]أحداث الماضي وتداعياته ودلائل الواقع ومعطياته أدت الى نشوء وتجذر ثقافة التوجس والارتياب التي أفضت الى تأصيل وتفعيل (مبدأ الحذر) لدى ابن المعتز :يامن تبجح في الدنيا وزخرفها كن من صروف لياليها على حذر وهذا المبدأ (الحذر) كان من القوة بحيث وفر لابن المعتز مبررات دامغة لاعتناق فلسفة الخوف ( إن كان للخوف من فلسفة ) وفند له فوائدها لا سيما في عصر تصاعدت فيه شهوة الملك لتطغى على الاخلاق والقيم في ظل تصدع هيبة الخلافة وتزعزع مكانتها وتكاثر الطامعين فيها وتكالب الناقمين عليها .ليشهد ذلك العصر تتابع موجات الاغتيالات وأغربها بل وأبشعها ففي ذلك العصر كان الابن الذي أغتال أباه والاخ القاتل أخاه !! لذا كان لابد للحذر أن يتضخم مارداً مستبداً يتحكم في كيان ابن المعتز ويتأصل فيه ويتعمق ليتحول الى خوف ويصير هذا الخوف جحراً يندس فيه طلباً للأمان ومجناً يتمترس خلفه ليقيه طعنات الغدر التي نالت من أبيه وجده من قبل :[c1]يا آمناً لا تبق من حذر إن المخافــة جانــب الأمــن [/c]ولا عجب أن نرى (ابن المعتز) يصل في لحظة يأس الى ذروة التبرم والتمرد على حسبه الذي أصبح بمثابة لعنة تطارده لتشتد وطأة الخوف عليه وتحرمه الأمن والسكينة لذلك لا يتردد في لحظة يأسه من أن يجاهر بتنازله وتخليه عن حسبه مقابل أن يحظى كعامة الناس من المهمشين بالامن والاستقرار النفسي :[c1]من يشتري حسبي بأمن الخمول مـــن يشــتري أدبــــي بحــظ جهــول [/c]ولكن هيهات ذلك ! إذ بعد كل هذا , لم يكن (ابن المعتز) خارج دائرة الخطر بل هو في مركزها حتى وإن ابتعد عنها باعلانه زهدة في السلطة وابتعاده عن مجريات شؤون الحكم !! فما أن توفي الخليفة (المعتضد) سنة 289هـ وخلفه ابنه (المكتفي) حتى قبض عليه وألقي به في السجن على ماله من مكانة ريثما تتم البيعة للخليفة الجديد !!.. فياله من إنكسار لا يشبهه إنكسار .. ومن ذل ما بعده ذل !!قدر (ابن المعتز) أنه عاش في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري .. زمن وهن الخلافة العباسية وإنهيار هيبتها وتداعي سيادتها حتى اصبحت مطمع كل خارج وغاية كل طامح مغامر .. والسبب في ذلك صراع الاجحنة في البيت العباسي واستحواذ الاتراك (قبائل تركستان) على أمرها دون الخليفة الذي لم يكن يملك من أمر نفسه شيئاً بل يملكها القادة والوزراء وحتى خدم القصر من الاتراك !! فهم من "... بيدهم تولية الخليفة وعزله وسمل عينه وقتله فقتلوا المتوكل وسموا المنتصر ومثلوا بالمعتز وعذبوا المهتدي حتى مات .."(5)وقد أشار (ابن المعتز) الى ما وصل إليه حال الخليفة من ضعف وعجز وكيف أصبح الامر للأتراك في قوله :[c1]لم يعلم الناس الذي نالني فليس لي عندهـــــــــم عذركان إليّ الامر في ظاهـر وليس لي في باطن أمر [/c]فعلى يد هؤلاء الاتراك تحولت الخلافة الى موت ماحق يطوي كل من يحاول الاقتراب منه .. ولا غرابة أن يكون (ابن المعتز) هو أول المدركين لتلك الحقيقة المرعبة بل كان أول من دفع استحقاقات السلطة وهو في المهد ابن أربعين يوماً بمقتل جده (المتوكل) سنة 247هـ وما هي إلاّ أشهر ستة حتى قتل عمه (المنتصر) ثم (المستعين) 252هـ ومن بعد قتل أبوه (المعتز) 255هـ (فالمهتدي) في 256هـ ... خمسة خلفاء جميعهم قتلوا بأمر من الاتراك ولم يزل (ابن المعتز) طفلاً في عامه التاسع !!.. إذاً فليس بالغريب أن يسكنه الحذر ويستولى عليه الخوف فيجنح الى الزهد في السلطة في ظل تلك الاوضاع :[c1]وكل يوم ملك مقتول أو وظائف مروع ذليــل [/c]درس كان عليه إدراكه ليتجنب أمر الخلافة ويخمد شهوة السلطة ويجز مطامحه فيها كي لا يقع في شركها القائل :[c1]ألا يانفس أن ترضي بقوت وأنت عزيزة أبدا غنيه دعي عنك المطامع والاماني فكم من أمنية جلبت منيه [/c][c1]المصادر والمراجع :[/c]1- ديوان عبدالله بن المعتز : تحقيق وضبط : د.عمر فاروق طباع – توزيع دار القلم , بيروت , ص 216.2- طبقات الشعراء (لابن المعتز): تحقيق : عبدالستار فراج – دار المعارف , القاهرة , الطبعة الرابعة – 1981م –ص 18.3- المعارف (لابن قتيبة) : تحقيق وتقديم : د. ثروت عكاشة – دار المعارف , القاهرة , الطبعة الرابعة – 1981م –ص 394.4- المصدر نفسه : ص 393..5- د. سعد شلبي : ابن المعتز العباسي (صورة لعصره) – دار الفكر العربي – القاهرة – 1981م – ص 59.