أضواء
لا بأس بمعاودة “النبش” في تاريخ العالم الحديث لتذكير الغافلين أو الناسين أو المتناسين بعاقبة ذيوع وباء الفوضى والديمقراطية المتشنجة والممارسة غير المسئولة لمفاهيم الحرية, دون مراعاة لخصوصية الأوطان ومقومات بنيتها السياسية والاجتماعية والتاريخية... فعلى صعيد وطننا العربي يأتي في المقدمة النموذج اللبناني ليحكي مأساة بلد مزقت الديمقراطية غير الواعية أوصاله ودمرته, وأشعلت فيه ثلاث أو أربع حروب أهلية لا تزال تداعيات آثارها تلقي بظلالها على مجمل أوضاعه السياسية, وتضرب بأطنابها صراعا ظاهرا على مراكز نفوذ ومناصب حكومية ونيابية مختلفة.ولو عدنا بالذاكرة مع هذا النموذج إلى عام 1975 حيث بدأت الحرب الأهلية, سنجد أنفسنا أمام مظهر بغيض أكثر ضراوة وفسادا وإفسادا لإرهاصات ديمقراطية لا تجني الشعوب منها سوى التشتت والضياع وربما الأفول.ألم يكن لبنان آنذاك أشبه بساحة دكاكين تبيع البضائع السياسية بأيديولوجياتها المتباينة?... ألم يكن بلدا مشرع الأبواب لكل من هب ودب ¯ وشارعا مفتوحا لخطف الناس وقتلهم بالعشرات والمئات والآلاف?... ألم يتولد بفعل تلك الفوضى في ممارسة الديمقراطية أحزاب وكتل وأيديولوجيات وأفكار يرمي متبنوها أو أصحابها إلى تقسيم لبنان كانتونات تحت شعارات طائفية ومذهبية او فئوية, بحيث تستفرد كل ملة بمنطقة من المناطق في بلد لا تتجاوز مساحته ال¯ 10452 كلم, وتقيم عليها سلطتها ومراكز نفوذها?!نعم هذا ما فعلته الديمقراطية عندما أسيء توظيفها وتم الإخلال في استخدام آلياتها بلبنان. وهو ما ابتليت به دول أخرى لفحتها رياح الديمقراطية من غير أن تفوز بحاكم قوي يسلس قيادها جيدا ويعرف كيف يديرها ويوجه رياحها.أليست الفوضى التي قامت يوما في العراق نموذجا, فانقادت البلاد بالأشرار, ولم يعد بوسع الحاكم توجيه الناس والأخذ بيدهم إلى مرفأ النجاة في مستنقع الشتات الطائفي والمذهبي والحزبي?ألم تأت الديمقراطية ¯ غير المحكومة بفكر ولاة الأمر القيمين على شؤون البلاد ومصالح العباد ¯ بمصائب سياسية وعلل اجتماعية كالتي حدثت في ايطاليا في يوم من الأيام, وكذلك الصومال, وكادت أن تفعل فعلها المشين في البحرين وهنا في الكويت, وأيضا في مصر, حينما حاول “الإخوان المسلمون” العبث في هذه الدولة العظيمة أرض الكنانة, وظنوا أن حلم الحاكم وصبره سيبقيان دائما حتى يصلوا إلى أهدافهم ومآربهم في بلوغ مسند الحكم لينالوا من الناس ومن وطنهم الذي يحتضنهم, ويشهروا سيوفهم على رقاب العباد, ومن ثم تضيع حينها أركان الدولة مثلما ضاع لبنان وضاعت القضية الفلسطينية, ودُمرت بيوت غزة على أهلها الأبرياء عبر تلك الإيديولوجيات التي فرض أصحابها أنفسهم على الشعوب, ونصبوا شخوصهم مرجعيات في غياب قادة حقيقيين يردعون الخارجين على رغبات الناس ويوقفون ترفهم.ما تريده الأوطان هو الاستقرار والأمن ولا شيء غيرهما, فبدونهما يتوقف العمل والبناء والنشاط التجاري والاقتصادي الذي يعد أساس كل تقدم أو رقي اجتماعي وسياسي.الاستقرار هو الحياة, ولا يتحقق إلا بقيادة حكيمة صارمة قوية كل همها أمن وطنها وحراكه التنموي, لاسيما اذا كان هذا الوطن يتمتع بوفرة مالية مطلوب فقط حسن توزيعها.الأمن - يا سادة - يتأتى بديمقراطية واعية تمارسها عقول واعية يستعين بها الحاكم من بني وطنه, تجسيدا لمفاهيم المشاركة الشعبية في الحكم... ديمقراطية نظيفة بمنأى عن غول الفوضى ومخاطر استغلال الفرص وتبعثر المسؤولية السياسية في الأوطان, وبعيدا عن ذاك الخلل والتوهان في معرفة كنه المرجعية العليا المنوط بها الضبط والربط, ديمقراطية لا يشوبها الغمز واللمز من كل من نصب نفسه مسؤولا لمجرد انتخابه عضوا لمجلس الأمة من قبل أربعة أو خمسة أو عشرة آلاف مواطن, سواء أكان هذا الانتخاب وجاهيا أو عبر شراء الأصوات... نعم نائب فاز بأصوات هذا العدد القليل من الناخبين يظن أنه الحاكم الفعلي, والآمر الناهي لدولة تعداد سكانها يربو على ثلاثة ملايين نسمة, فيما أهلها مليون مواطن فقط ومع ذلك لا يتورع عن التشدق ليل نهار بأنه نائب يمثل أمة الكويت كلها.محصلة القول: إن الأوطان السعيدة تبحث عن استقرارها سواء كان هذا الاستقرار بالديمقراطية أو بحكم الفرد العادل, وتمقت أي حرية تجلب الفوضى وغياب المرجعيات... تريد هذه الأوطان فقط نظاما سياسيا خاليا من ثقافة الضحك على الذقون بالكلام المعسول... أي أنها تأمل نموا ورخاء, لا ترفا فاسقا وتفريطا سهلا في مقدراتها ومصالح شعبها.[c1]عن/ صحيفة (السياسة) الكويتية[/c]