أقواس
يقول الأديب الدكتور طه حسين في كتاب» الأدب الجاهلي» أن كل العلوم فنون تدخل في الأدب إذاً فالأدب هو كل شيء وهذا معناه أن الفلسفة برمتها تقع في نطاق الأدب حيث أن الأدب وفقاً لتعريفه هو مأثور الكلام، مأثور الكلام يشمل المعرفة الإنسانية أياً كانت وبضمنها الفلسفة.والواقع أن الفلسفة مباينة للأدب وإن كانت تتلاحم معه في قطاع مشترك وبتعبير آخر نقول إن بعض الفلسفة أدب وإن بعض الأدب فلسفة ولكن من الخطأ أن نقول أن كل الفلسفة يقع في إطار الأدب.ولعلنا ننصف إذا مانظرنا إلى المسألة نظرة كلية فنقول أن المعارف الإنسانية وايضاً الفنون الإنسانية متداخلة بعضها مع بعض بل ومتوافقة ولا غنى أو استقلالاً تاماً لبعضها عن بعض ومن هنا فلا غنى للفلسفة عن الأدب ولا غنى ايضاً للأدب عن الفلسفة ولكن مع هذا التداخل والتوافق بين الفلسفة والأدب، فإن للفلسفة قوامها وكنهها كما أن للأدب قوامه وكنهه.وهذا يدعونا إلى تحديد الخصائص التي تخص الفلسفة دون الأدب والى تحديد الخصائص التي تخص الأدب دون الفلسفة.نقول اولاً إن التذكير الفلسفي يشهد التعميم والاتساع بأفق الفكر إلى أوسع دائرة ممكنة، فالفيلسوف عندما يعرض للأخلاق متلاً فإنه يعرض لها بأي مكان وأي زمان بإزاء ماينهجه الإنسان من علاقات اجتماعية يحكم عليها بالخير أو الشر وما يجمله من قيم تنشر في العلاقات الاجتماعية اياً كانت.فاهتمام الفيلسوف ينصب على الكليات لا الجزئيات. وحتى عندما يعرض الفيلسوف الجزئيه من الجزئيات كان يعرض بالحديث لحالة اجتماعية أو لظاهرة أخلاقية في مجتمع بعينه فإن ذلك لا يعدو أن يكون بمثابة نقطة انطلاق يخرج من حيزها المحدود إلى الحيز العام للإنسانية كلها. ففيلسوف الأخلاق أو الاجتماع لا يشرع لمن حوله بل يشرع للإنسانية كافة وقل الشيء نفسه بالنسبة لجميع المسائل التي يمكن أن يعرض لها الفيلسوف كالكون والوجود والإلهيات.وعلى العكس من هذا فإننا نجد أن الأديب يعمل على دوائر متباينة الاتساع فهو قد يضيف دائرة تأمله اشد التضييق فيصف حالة بعينها أو بيئة ضيقة بالذات وقد يعرض لجمال امرأة يحبها فيتغزل في جمالها ولا يعرض للجمال أياً كان وفي أي شيء يكون، ولكن الأديب حر في تضيق أو توسيع دوائره فلقد يقترب أو حتى قد يدخل في القطاع المشترك بينه وبين الفيلسوف وهو القطاع المتسم بالتعميم الشديد ولكن دخوله في ذلك القطاع المشترك لا يكون إلا لماماً ولوقت قصير وسرعان ما يرتد إلى مجاله ذي الدوائر المتباينة الاتساع يعمل فيها قلمه أو لسانه.والفيلسوف لا يعرف التلميح أو المجاز أو الاستعارة أو الكناية بل يعرف التصريح وفضح المستور من المعرفة وهو لا يخبئ المعاني كلها أو بعضها ولا يخفف وقع الألفاظ أو العبارات.ولا يترك المتأمل لكلامه استشفاف ماوراء المستور ولايستخدم الكلمات ذات الأطياف من المعاني المتباينة ولايهمه التأنق فيما يقول حتى يخلب لب القارئ أو المستمع بمليح الكلام ورائعه بل هو يقصد إلى المعنى بأسلوب تلغرافي لاهم له سوى الإبانة عن المعنى ولذا فإنك تجد الفيلسوف يقول المضمون في أضيق حيز بغير أن يستميل قارئه أو سامعه للقراءة أو الاستماع المهم عنده أن يطرح الحقيقة كموضوع متجرد عن ذاتيته ولكنه يقول» أن ما أقوله يجب أن يقوله جميع الناس يغير استثناء».وبتعبير شامل نقول أن الفيلسوف يهتم بالمضمون اولاً ولا يكون اهتمامه بالشكل إلا لخدمة المضمون فاللغة عنده لا تعدو أن تكون أداة لا تقصد لذاتها ولايمكن أن ترجح أهمية المضمون.والخلاصة أن الأدب يفيد من الفلسفة ولا يستوعبها في نطاقه وشأن الأديب بإزاء الفلسفة كشأنه بإزاء أي علم من العلوم أو أي فن من الفنون فهو يمد ذراعه ليقطف وردة من هنا وزهرة من هناك على أن المهم بالنسبة للأديب هو استيعاب مايقطفه بحيث يحيله نسيجاً في قوامه الثقافي فيأتي أدبه مركباً جديداً وقد تفاعلت الجزيئات المقطوفة من شتى المعارف والثقافات الإنسانية قديمها وحديثها بعضها مع بعض، أو أن تلك الجزيئات تتفاعل مع شخصية الأديب الثقافية فتوفر له النمو والتفتح لمخيلته فيأتي انتاجة خصباً عميقاً بلا هلهلة ولا تمزيق وبلا انتقاء شعوري لعنصر معين من هذا العلم أو ذاك أو من هذه الفلسفة أو تلك.