أفكار
كثير من مواقف الفريق العربي المسمي ممانعا تبدو معتدلة, وقد يكون فيها ما يصح اعتباره نوعا من المهادنة، وفي سياسات الفريق الآخر الذي يوصف بالاعتدال ما قد يجوز اعتباره ممانعة، فلاسورا عظيما بين الفريقين، ولاخطا فاصلا هنالك يجيز الحديث عن فجوة كبيرة يستحيل تجسيدها. وهذا هو أحد جوانب الاختلاف بين الانقسام الحالي وصراعات سابقة انقسم فيها العرب.ففي الحرب الباردة العربية في أواخر خمسينيات ومعظم ستينيات القرن الماضي، اختلفت نظم راديكالية ومعتدلة علي كل شيء تقريبا،بدءا من السياسات الداخلية وليس انتهاء بالتحالفات الدولية.غير أن ثمة عاملين يجعلان الانقسام الراهن بالغ الخطر, بالرغم من انه ليس بمثل هذا العمق: أولهما مشروع إيران الإقليمي الذي يستظل أحد الفريقين به, بينما يرفضه الفريق الآخر, ويعتبره مصدر تهديد, وبالرغم من أن طابع التهديد يتباين من طرف إلى آخر في هذا الفريق, فقد أصبحت إيران هي محور الخلاف بين الفريقين, أما العامل الثاني فهو تضاؤل الثقة, وربما غيابها بين الدول الرئيسية في كل من الفريقين العربيين, أي مصر والسعودية في جانب وسوريا في الجانب الآخر.ويتقاطع هذان العاملان عند الأثر المتزايد للتناقض بين الفريقين تجاه إيران في مفاقمة أزمة عدم الثقة, وما يقترن بها من هواجس متبادلة تخلق حال استنفار شديد وتضخم الخلافات في شأن الموقف تجاه إسرائيل, وكيفية التعاطي معها, ففي الحرب الأخيرة علي قطاع غزة كما في الحرب التي سبقتها علي لبنان في صيف2006, كان العامل الإيراني في قلب الانقسام وما اقترن به من مواجهات كلامية عنيفة.وكان اجتماع أبو ظبي في3 فبراير الجاري, الذي شارك فيه وزراء خارجية ثماني دول عربية معتدلة, مؤشرا جديدا علي ثقل وزن المسألة الإيرانية في الانقسام الراهن.ولكن إذا كان سهلا أن نجد عربيين تتعارض توجهاتهما في هذه المسألة, فمن الصعب أن نعثر علي مثل ذلك في غيرها, خذ مثلا المسافة التي لايمكن اعتبارها بعيدة بين سياسات ومواقف مصر وسوريا خلال الأسابيع الأخيرة التي اشتد فيها التباعد.فسوريا, التي يحب أركان نظام الحكم فيها أن يسموها دولة ممانعة أو مقاومة, رحبت بالتفاوض مع إسرائيل بشكل غير مباشر عبر الوسيط التركي, وتطلعات إلى مفاوضات مباشرة, ولكن برعاية أمريكية علي نحو يمد لها جسورا إلى واشنطن.. وبالرغم من عدم وجود ما يدفع إلى ترجيح وضع المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية بين أولويات إدارة الرئيس باراك أوباما في المدي المنظور, فقد عبر الرئيس بشار الأسد عشية الحرب علي غزة عن استعداده للانتقال إلى التفاوض بشكل مباشر, وكشف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أرد وجان أخيرا, أن المفاوضات غير المباشرة حققت تقدما كبيرا قبيل الحرب الأخيرة التي حالت دون إكمالها بالرغم من أن الاتفاق بات أقرب من أي وقت مضي.ويعني ذلك انه لا تناقض بين مصر وسوريا في شأن حل الخلافات مع إسرائيل سلميا, كما لم يحدث تناقض جوهري بينهما إزاء الحرب علي غزة, فقد اتخذت سوريا مواقف لا تخلو من اعتدال, فيما تبنت مصر مواقف لاتخلو من ممانعة. فعلي سبيل المثال مارست دمشق نفوذها على حزب الله لضمان عدم تدخله بأي شكل خلال الحرب الأخيرة, وحثته على ضبط النفس, سعيا إلى عدم توسيع رقعة هذه الحرب, ونقل النائب الفرنسي فيليب ماريني, الذي زار دمشق وبيروت أواخر الشهر الماضي موفدا من الرئيس نيكولا ساركوزي ذلك عن الرئيس الأسد.وحتى عندما أطلقت صواريخ من جنوب لبنان خلال الحرب, حرص حزب الله علي أن ينأى بنفسه عنها وقدم بعض المساعدة للجيش اللبناني وقوات اليونيفيل لمعرفة من الذي أطلقها. ويعني ذلك التزام قرار مجلس الأمن الدولي رقم1701, في الوقت الذي شن السيد حسن نصر الله هجوما غير مسبوق علي مصر بسبب التزامها باتفاقية دولية بالرغم من أنها لاتمانع في تعديلها بالتوافق بين طرفيها المباشرين( السلطة الفلسطينية وإسرائيل) والشريك أو الطرف غير المباشر فيها وهو الاتحاد الأوروبي. وهكذا بقي موقف حزب الله, كما سوريا في إطار التضامن السياسي والإعلامي مع الفلسطينيين في قطاع غزة, والإدانة اللفظية للعدوان عليهم, ولا يختلف ذلك كثيرا عن موقف مصر, بالرغم من أن ارتباكا في الأداء أعطي انطباعا بغير ذلك في الأيام الأولي للحرب, غير أن هذا الموقف المصري تطور إلى الأفضل, وخصوصا بعد توقيع مذكرة التفاهم الأمني بين إسرائيل وإدارة جورج بوش في آخر يوم عمل لها, وموافقة إدارة باراك أوباما علي هذه المذكرة الخاصة بمكافحة تهريب السلاح إلى قطاع غزة.وهنا, اتجهت مصر إلي موقف يدخل في إطار الممانعة عندما رفضت تلك المذكرة, وأعلنت أنها لاتلزمها في شيء, ولم يقتصر هذا الرفض علي منطقة الحدود مع قطاع غزة, والتي أعلنت أنها لايمكن أن تقبل وجود أي مراقب أجنبي فيها, فقد اعترضت كذلك علي تمركز سفن أوروبية في المياه الإقليمية لقطاع غزة تحت شعار منع تهريب السلاح أيضا, بالرغم من أن وجود مثل هذه السفن لايمس سيادتها بخلاف وضع مراقبين أجانب علي أرضها,وأبلغت الخارجية المصرية الأوروبيين أن هذا التحرك يمكن أن يؤثر سلبا على مستقبل العلاقات العربية معهم, ونبهتهم إلى ضرورة تفهم المشاعر العربية والإسلامية تجاه مثل هذا التحرك, وعبر هذا الموقف عن قلق من تحول مسألة مكافحة تهريب السلاح إلى ذريعة لاستباحة سفن وأساطيل حلف الأطلسي المياه والشواطئ العربية عموما.وهذا موقف يدخل في إطار الممانعة التي لا يحتكرها فريق عربي, مثلما لاينفرد الفريق الآخر بمواقف معتدلة, ولذلك يصعب القول بوجود انقسام في شأن العدوان على قطاع غزة من النوع الذي يجعل العرب عربيين تجاه الصراع ضد إسرائيل, ولكن حدة التناقض بشأن إيران, وضعف الثقة المتبادلة, يضخمان الخلاف محدود النطاق تجاه إسرائيل فيظهر في حجم أكبر مما هو في الواقع, الأمر الذي يباعد بينهما أكثر في لحظة تشتد حاجتهما معا إلى شيء من التقارب.فإذا تواصلت العدوانية الإسرائيلية المنفلتة من أي قواعد, لن يكون في إمكان أي من الفريقين أن يواجه تهديدها بمفرده, وهذا هو جوهر المأزق العربي في اللحظة الراهنة, والذي يبدو كبيرا كبر التناقض تجاه إيران ومشروعها, وليس الخلاف على إسرائيل وتهديدها.[c1]*عن صحيفة (الأهرام) المصرية[/c]