على امتداد العقد التسعيني الأخير من القرن العشرين شهد النظام الدولي تبدلات عاصفة، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية العالمية، باتجاه إعادة صياغة العَلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدول لتصبح أكثر تكاملاً.. بيد أنّ منظمة التجارة العالمية والمؤسسات المالية والنقدية الدولية كانت ولاتزال تسوّق ـ حتى الآن ـ تصورات جاهزة لإعادة تنظيم الأسواق وعولمة اقتصادات الدول بإيقاع متسارع أدى إلى مزيد من البطالة والفقر في معظم دول العالم.وفيما كانت الأفكار التي تسوقها منظمة التجارة العالمية وإلى جانبها المؤسسات النقدية والمالية الدولية، لا تجد من يتلقفها سوى النخب السياسية المتنفذة في معظم بلدان العالم، كانت ردود الفعل الغاضبة ضد مواصفات العولمة التي تسوقها منظمة التجارة العالمية تكتسب أبعادا وشعارات شعبوية بسبب اتساع نطاق ضحاياها الذين أفزعهم انتشار الفقر والبطالة، وضياع الشعور بالأمان وعدم اليقين بالمستقبل!!اليوم .. وبعد مرور أكثر من خمس سنوات على وقوع أحداث 11 سبتمبر المأساوية في نيويورك وواشنطن بالولايات المتحدة الأميركية ، تزايدت على نحوٍ خطير مؤشرات قوية لركودٍ اقتصادي عالمي، وسط ظهور أزمات مالية واقتصادية واجتماعية، ومخاطر أمنية لم يسبق لها مثيل، ولم تكن في حسبان مهندسي العولمة بصيغتها المتوحشة الراهنة.. جنباً إلى جنب مع تزايد حاجة المجتمع الدولي لتعاون فعّال بين كل دول وحكومات العالم ، لمكافحة الإرهاب وحل النزاعات الإقليمية التي تغذي ظواهر التطرف الإرهاب.اللافت للنظر أنّ أحداث 11 سبتمبر جاءت في سياق الترابط الوثيق بين ظاهرة الإرهاب العابر للحدود ، والأسواق المتوحشة عابرة القارات.. والأخطر من ذلك أنّ الإرهاب لم يكن نشاطاً حركياً مجرداً، بل كان ممارسة عملية لأفكار نظرية متطرفة أخذت تنتشر كالسرطان على نطاق عالمي، بعد أن ارتدت لباساً دينياً، وهو ما دفع بعض المفكرين إلى القول بأنّ هذه الأفكار لم تكن نبتاً شيطانياً بل نتيجة موضوعية لخلل موجود في بُنية الواقع العالمي.يذكرنا هذا المنطق بالأفكار الشيوعية التي وصفها المفكر الليبرالي الإصلاحي / جون كينز بأنّها ليست نبتاً شيطانياً، بل هي نتاج طبيعي لمظاهر الاختلالات والتشوهات التي أصابت الرأسمالية في القرن التاسع عشر . فكانت عبقرية جون كينز وزميله لودفيج ايرهارد صاحبة الفضل في إنقاذ الرأسمالية من خطر الشيوعية ، عن طريق تدخل الدولة في تنظيم الأسواق ومنع الاحتكارات الكبرى وإدخال تنظيمات تشريعية واقتصادية مباشرة لرعاية القوى العاملة وتوفير الخدمات الاجتماعية وإنعاش الاقتصادات المنكوبة بأزماتِ الكسادِ والتضخم.خلال ما سُميت بالحرب الباردة كان الاقتصاد يتوزع على ثلاثة محاور:[c1]*[/c] النظام الرأسمالي القائم على اقتصاد السوق. [c1]*[/c] النظام الاشتراكي الذي أوقف العمل بقوانين السوق وألغى الملكية الخاصة واستعاض عنها بالاقتصاد الكلي الذي تقوده وتخطط له الدولة. [c1]*[/c]اقتصاد البلدان المستقلة والمتحررة من الاستعمار، وكان خليطاً من نظام اقتصادي موجه يجمع بين رأسمالية الدولة المالكة لأهم القطاعات الإنتاجية والخدمية الكبرى، إلى جانب دور القطاع الخاص كشريكٍ مستفيدٍ من دعم الدولة وحمايتها لنشاطه الموجه في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية.في منتصف القرن الماضي حقق النظام الاشتراكي العالمي الذي كان يقف على رأسه الاتحاد السوفيتي نجاحات كبيرة في ميادين الصناعة والزراعة والعلوم والكهرباء والتعليم والإسكان والخدمات الصحية، حتى أصبح قوة ضاربة نجحت في ارتياد الفضاء الخارجي ، وامتلاك السلاح النووي، وبناء ترسانة عسكرية جبارة.والثابت ان الاشتراكية اكتسبت - كنظامٍ اقتصادي - جاذبية حفزت في بدايات انطلاقتها ، شعوب البلدان المتحررة حديثاً على الاستفادة من دور الدولة في إطلاق آليات النمو الاجتماعي، والانفتاح على خبرة بناء الاشتراكية، الأمر الذي ضاعف حجم التحديات التي واجهت النظام الرأسمالي العالمي، خصوصاً بعد ظهور أشكال مختلفة من التنسيق والتعاون بين الدول النامية وبعضها من جهة.. وبين الدول النامية والبلدان الاشتراكية من جهةٍ أخرى.. فظهرت دول نامية سارت على طريق التوجه الاشتراكي ، ودول أخرى أخذت بأشكال مختلفة من الاقتصاد الموجه من قبل الدول إلى جانب اقتصاد السوق في آنٍ واحد.من جانبها لم تقلل البلدان الرأسمالية القائمة على اقتصاد السوق من خطر المنافسة مع الاقتصاد الاشتراكي ، حيث أسهم المذهب الإصلاحي في الفلسفة الليبرالية الذي مثلته أفكار جون كينز ولودفيج ايرهارد، في صياغة أفكار نظرية حديثة اعتمدت عليها الدوائر السياسية في البلدان الرأسمالية بإعداد برامج اقتصادية واجتماعية، أوكلت للدولة مهمات محددة في مجال زيادة التوظيفات الخاصة بالرعاية الاجتماعية والصحية والخدمات التعليمية، والتدخل في ضبط الأسواق ومكافحة البطالة ورفع معدلات النمو،الأمر الذي أضفى على النظام الرأسمالي طابعاً شعبياً ذا أبعاد اجتماعية ، فيما سميت الدولة الرأسمالية بدولة الرفاه.في الاتجاه نفسه، سعت البلدان الرأسمالية إلى الاستفادة من وظائف الدولة الوطنية في البلدان النامية، واستثمرت بفعالية السياسات الرامية إلى حماية الإنتاج المحلي، فقامت بتصدير بعض الفروع الصناعية إلى أسواق هذه البلدان ، كما ساهمت في تحويل وكلاء الشركات الصناعية الرأسمالية إلى رجال صناعة محليين يضطلعون بمهام الصناعات التحويلية الخفيفة التي تؤمن ربحاً أفضل لمنتجاتها في أسواق البلدان النامية بالاستفادة من تخفيض الإعفاءات الجمركية المفروضة على هذه المنشآت الصناعية، ومنح الحوافز وإصدار التشريعات الوطنية لحماية منتجاتها.من نافل القول إنّ هذه الإصلاحات لعبت دوراً حاسماً في إيقاف جاذبية الاشتراكية التي استنفذت قواها المحركة ، فيما أدى الطابع الشمولي لنظامها السياسي القائم على حكم الحزب الواحد، إلى تحول الحزب السياسي من أداة لتحفيز المجتمع على الإنتاج والإبداع والعمل، إلى جهاز بيروقراطي مالك للدولة ومواردها وامتيازاتها.. فكانت النتيجة الطبيعية لهده الشمولية ـ بجانبيها السياسي والاقتصادي ـ اندماج وظائف الحزب بوظائف الدولة واغتراب المجتمع عنهما ، وشيوع مناخ قاتل من السلبية والركود.. وصولاً إلى عجز مطلق عن مجاراة الرأسمالية في مختلف الميادين، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف الى إصابة النظام الاشتراكي بأزمة عاملة وشاملة انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية بدون حربٍ ، واختلال ميزان العَلاقات الاقتصادية الدولية لصالح البلدان الرأسمالية الكبرى، ودخول البلدان النامية مرحلة جديدة من الأزمات العاصفة.بتأثير انهيار الاتحاد السوفيتي واختفاء المنظومة الاقتصادية الدولية للبلدان الاشتراكية، وبلدان التوجه الاشتراكي في البلدان النامية، انتعشت الاتجاهات اليمينية التي تنادي بالعودة إلى الأصول الكلاسيكية لاقتصاد السوق، والتراجع عن الإصلاحات التي تم إدخالها على النظام الرأسمالي ، بدعوى أن هذه التنازلات كانت ضرورية لمواجهة الخطر الشيوعي خلال مرحلة الحرب الباردة، ولم يُعد ثمة ما يبررها بعد سقوط الشيوعية.في هذا السياق شهد عقد التسعينيات في القرن الماضي استحداث وظائف ضاغطة جديدة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي باتجاه إعادة هيكلة اقتصاديات البلدان الاشتراكية السابقة، واقتصاديات البلدان النامية بما يتلاءم مع آليات الأسواق الحرة، وإيقاف تدخل الدولة في توجيه الاقتصاد وإلغاء وظائفها الاجتماعية، وربط التدفقات النقدية بمؤشرات الأسواق النقدية والمالية التي تتحكم بها اقتصاديات البلدان الصناعية الكبرى.إلى جانب ذلك ظهرت منظمة التجارة العالمية خلال هذه الفترة، واضطلعت بأدوار ضاغطة إضافية، استهدفت تحرير التجارة العالمية، وإلغاء الحواجز الجمركية، وإبطال مفعول السياسات الحمائية بين الأسواق باتجاه تأكيد الحرية المطلقة لانتقال رؤوس الأموال والمنتجات ، وما يترتب عن ذلك من تأثير سلبي على الوظائف السيادية للدولة، وإيقاف تدخلاتها في ضبط الموازنات التجارية الخارجية ، وصولاً إلى عولمة العَلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية وتحويلها إلى نظام اقتصادي عالمي غير دولي ، قاعدته الأساسية الأسواق ورؤوس الأموال والمنتجات والبنوك عابرة الحدود.[c1]مناهضو العولمة[/c]لئن كانت البلدان النامية والبلدان الاشتراكية سابقاً ، هي الميدان الرئيسي لضغوط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فإنّ ضغوط منظمة التجارة العالمية شملت كل دول العالم بدون استثناء، الأمر الذي ألحق أضراراً كبيرة بمصالح طبقات اجتماعية واسعة في البلدان الصناعية المتقدمة، وإفقار المجتمعات بأسرها في البلدان النامية، بما في ذلك انتهاء الحاجة للصناعات التحويلية الخفيفة التي أقيمت في هذه البلدان، بعد أن حلت محلها حاجة الأسواق الكبرى لإلغاء الحواجز الجمركية التي تحول دون التدفق الحر لرؤوس الأموال والمنتجات لصالح أوليغارشيات الأسواق وبارونات الشركات الاحتكارية العالمية الكبرى.لعل ذلك ما يفسر ردود الفعل الغاضبة التي تبديها الطبقات والفئات الاجتماعية المتضررة من سياسات هذه المؤسسات الدولية والتي يتم التعبير عنها بوسائل متنوعة، وفي مقدمتها المظاهرات الصاخبة التي تنظمها القوى المناهضة للعولمة في كل مكان تعقد فيه اجتماعات منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ، حيث تدعو هذه القوى إلى أنسنة العولمة ، والتوقف عن فرض السياسات التي تسبب الفقر والبطالة وتولد الخوف من المستقبل.مما له دلالة أنّ تزايد النشاط المناهض للعولمة اكتسب طابعاً كونياً ، واجتذب طبقات اجتماعية واسعة بما فيها شرائح عريضة من المستثمرين في مجال الصناعة والزراعة في البلدان المتقدمة والنامية طوال السنوات الماضية ، حيث يطالب مناهضو العولمة بإعادة الاعتبار لوظائف الدولة السيادية في مكافحة الفقر وضبط الأسواق.. بيد أنّ ثمّة تساؤلات جدية حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه أوليغارشيات الأسواق وبارونات الشركات الاحتكارية الكبرى في الإصرار على فرض السياسات الرامية إلى تجاوز دور الدولة، خصوصاً في ظل الأزمات المتكررة التي تصيب أسواق المال والأسهم منذ أحداث 11 سبتمبر المأساوية وتداعياتها في بلدان عديدة اكتوت بنار التطرف والارهاب ، وما تمخض عنها من بروز الحاجة إلى الاستعانة بتدخل الدولة في تخصيص توظيفات رأسمالية هائلة لدعم الشركات الخاسرة وإنعاش الأسواق وتحفيز الاستهلاك وإيقاف التراجع الحاد في مؤشرات النمو.الأخطر من ذلك أنّ التقارير الصادرة عن مراكز البحوث الاقتصادية العالمية، أجمعت على التحذير من ركود خطير سيتعرض له الاقتصاد العالمي ، من شأنه أن يعيد العالم بأسره إلى أجواء الركود الذي حدث في الثلاثينيات من القرن الماضي، وكان أحد أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية ، وهو ما يضاعف مخاطر الأوضاع المتدهورة التي يعيشها العالم اليوم في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، بالارتباط الوثيق مع تزايد أصوات طبول الحرب ضد الإرهاب، والتي لا تزال ترتفع في بقاع مختلفة من العالم ، بدون أن تتضح أهداف محددة أو حدود واضحة لهذه الحرب!يبقى القول إن أوليغارشيات الأسواق تصر دائما ً على الهروب من مواجهة الحقيقة الغائبة التي توجب إحياء دور الدولة في إنقاذ الاقتصاد العالمي من مخاطر الكارثة المحدقة به، تحت تأثير تداعيات الحرب العالمية على التطرف والارهاب التي أخذت أشكالا ً حادة بعد أحداث 11 سبتمبر المأساوية، تعكس حاجة البشرية لدورٍ أكبر يضطلع به المجتمع الدولي في محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه وقطع مصادره المالية والثقافية . وهو ما لا تستطيع الحرب على الارهاب تحقيقه من خلال الأجندة القديمة لمنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي قبل 11 سبتمبر 2001م.[c1]* نقلاً عن/ " 26 سبتمبر"[/c]
|
فكر
أوليغارشيات الأسواق .. وبارونات الشركات
أخبار متعلقة