محاولة أي باحث موضوعي لتأطير مفهوم ما في محددات معرفية أمر بالغ الصعوبة، فكيف بمفهوم ساخن كـ«الطائفية» يكتنفه الكثير من الغموض والالتباس والتداخل الشديد، بسبب تعدد مرجعياته وتنوع مصادره وتحولاته الدلالية من زمن لآخر، فالطائفية في التناول التراثي المستند إلى تقسيم الأفكار إلى ملل ونحل، يختلف كلياً عن الخبرة التاريخية التي طالت المفهوم في تناوله المعاصر فيما بعد حقبة الدولة العربية الحديثة، كما هو مختلف في ذات الوقت عن التناول الغربي للمفهوم قبل وبعد نشأة الدولة القومية، ومع اختلاف المدارس المرتبطة بتيارات الحداثة وما بعدها.الفرز الطائفي في صيغته «العقائدية» كان نتيجة صراعات لاهوتية بالأساس، ترجع بداياته المبكرة إلى مرحلة النزاع الذي حصل بين صحب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والذي كانت بوادره موجودة في حياته، ولكنه كان بحكمته واحتوائه المذهل للفرقاء الذين عاشوا في فترة الجاهلية، إرثا هائلاً من الشحناء والاختلاف، يحمل أبعاداً عشائرية. لكن الانشطار الذي حصل بعد وفاته في تحديد الخليفة وما تبع ذلك من فتن وأزمات، تكللت بانتهاء ما سمى بـ«الحقبة الراشدية» على يد الدولة الأموية، التي كانت في حقيقتها ذات توجهات براغماتية سياسية أكثر من تعبيرهــا عن الدولة الدينية، (وهنــا يمكن تسجيل ملاحظة الخطأ في تقييمها من كلا الطرفين)، ثم جــاءت الفترة العباسية التي حرص زعماؤها على الاستفادة من الدرس الطائفي بشكل كبير، من خلال الاستقطاب المذهبي الطائفي عبر التأسيس على أحقية الانفراد بالسلطة، لأسباب سلالية، وهو ذات المبرر الذي كانت تطرحه الأسر الهاشمية التي شكلت أحزاب المعارضة، مما أدى إلى تحول العراق وقتذاك، ويا للمفارقة، إلى ساحة صراع طائفي، مما ساهم في تشكل تيارين أساسيين ليس فقط على أساس الاعتقاد، وإنما على أساس الهم السياسي، وهما الشيعة والسنة. وكان للتحولات الاقتصادية الضخمة التي جنتها السلطة العباسية، أثر بارز في تأسيس الامبراطورية العباسية، التي أكدت على بعد الحكم الديني، اعتماداً على الحق الإلهي المطلق فيما جعل خصومهم يؤسسون للرمزية التضحوية، أو المعارضة الممثلة للإسلام المغيب، والتي كانت تعمل بشكل سري سرعان ما انتقل إلى أعمال وثورات مسلحة، أفلحت في حقب تاريخية لاحقاً إلى تأسيس دول «إمامية»، قائمة على المذهب الشيعي، في مقابل دول «خلافة» قائمة على النظرية السياسية السنية التي تم إنتاجها بشكل يأخذ في عين الاعتبار هذا التمايز الطائفي، وهو الأمر الذي صبغ تلك المرحلة بهشاشة سياسية على مستوى السيادة، وعلى مستوى العلاقات بين القطاعات المختلفة من المجتمع، الأمر الذي تعمق بشكل كبير مع انتشار الصراعات المسلحة، حتى بلغ الأمر ذروته مع تأسيس الدولة الفاطمية، في مقابل الدولة العباسية، مما ساهم في تحويل الصراع العقائدي إلى أدوات سياسية تستخدمها السلطة لقمع الخصوم وتجريم المعارضة. واستمر هذا التأليب الطائفي المتبادل، وكان من نتائجه الصراع المرير بين العثمانيين والصفويين، الأمر الذي شكل لاحقاً تيارات سياسية مستقلة قائمة على الانتماء الطائفي، لم تكن معنية تماماً بالجدل الديني، بل كانت مجرد تنظيمات سياسية جماهيرية، أكثر من كونها جماعات دينية تمارس خصوصيتها المذهبية.اليوم تترسخ الطائفية السياسية على أساس متين من الطائفية الدينية، ومع كل المحاولات التي بدأت مع عصر النهضة، لإيجاد صيغة توحيدية بين المذهب السني والشيعي، في ظل صعود دعوات الوحدة من قبل رموز النهضة، فإن كل تلك المحاولات ذهبت أدراج الرياح وحق لها، لأنها كانت ذات صيغ وأهداف «تلفيقية»، تحاول البحث عن المشترك، وهو مجمل وعام (أصول الإسلام الكبرى)، وتتجاهل كل ما هو تفصيلي وخاص، وهي الأفكار والمقولات التي بنيت شرعية كل الطوائف والجماعات الدينية عليها، سواء كانت في شكلها العقائدي أو الفقهي، بحيث أن أي انتقاص من تلك «التفاصيل/ الهوية»، يعني مساساً بالشرعية، وهذا ما لم يجرؤ عليه تيار ديني إصلاحي حتى الآن لأسباب كثيرة.من هنا يمكن فهم ردود الأفعال العنيفة التي تطال اليوم جهود رموز معتدلة من السنة والشيعة، تحاول أن تخفف من الاحتقان الطائفي في شقه الديني، سعياً إلى تجنيب المنطقة كوارث الطائفية السياسية التي تدق ناقوس الخطر منذ سقوط العراق، وصولاً إلى الحالة اللبنانية.ومع أنه يجب تثمين تلك المبادرة الخلاقة التي دعا إليها فضيلة الشيخ سلمان العودة، حين دعا إلى أن تكون هناك مكاشفة ومراجعة صريحة لكثير من المدونات والمراجع الشيعية وكذلك السنية، وألا يتم الاكتفاء ببعض التصريحات على استحياء، بل يجب أن يكون هناك مراجعة جريئة وصريحة وسليمة لحفظ الدين والعقول.. وهو كلام عام مجمل يقال مثله الكثير حتى في صيغ مبادرات التعايش من قبل الشيعة، والتي لم ترق إلى مستوى الاعتراف وتبادل الحقوق الذي وصل إليه رموز التجديد الديني، بدءاً من الأفغاني وعبده وحتى شلتوت وأبو زهرة.إلا أن باعث تثمين مبادرة الشيخ سلمان ما يلاقيه من ردود أفعال واتهامات عنيفة وقوية من قبل التيارات السنية المتطرفة، الأمر الذي يمكن من خلال قياس مدى تأثيرات أي تصريحات تصدر من مثله، حتى لو كانت متجاوزة في خطابات إسلامية غير محلية، هذا بالإضافة إلى أن أزمة الطائفية قد تجاوزت المقولات الكلاسيكية ذات الطابع اللاهوتي لتصل إلى محددات سياسية تصبغ هوية المرحلة القادمة، حتى بات الفصل بين ما هو سياسي وديني شبه متعذر، بسبب حالة الإسقاط التي تمارسها بعض التيارات السياسية المتطرفة، والتي تحاول تأسيس مشروعها السياسي على ذلك الإرث الطائفي الطويل.في اعتقادي أن ما يهم الآن، هو إيجاد صيغة تعايش سلمية يجترحها عقلاء الطرفين، مع الاحتفاظ بمحددات الهوية الرئيسية. هذه الصيغة يجب أن تكون «مدنية» تدخل في إطار العلاقة التي تحكم بين المواطنين ضمن العقد الاجتماعي العام، وهو عبء قانوني وتشريعي بالأساس، يجب ألا يلقى على كاهل الرموز المعتدلة في كلا الجانبين، حتى لا تتحول تلك الجهود الحثيثة، التي يبذلها أولئك المعتدلون، إلى «مسكنات»، وقتية تستحث فايروس المرض على المعاودة بشكل أقوى، أكثر من أن تمنح العافية لجسدنا الإسلامي المثلوم بواقعه المرير.[c1]* نقلاً عن صحيفة (الشرق الوسط) اللندنية[/c]
مسكنات الطائفية.. لماذا لا تجدي نفعاً؟
أخبار متعلقة