قادتني الأقدار وربما فضولي الصحافي ذات يوم إلى الذهاب إلى المحكمة وكانت تلك هي المرة الأولى بالنسبة لي التي اذهب فيها إلى محكمة ، وهناك اكتشفت عالما مختلفا عن العالم الذي أعيشه ، فتسمع حكايات شتى بعضها إنساني مؤثر والآخر غير قابل للتصديق ، وعقب كل حكم ينطق به القاضي ترى وجوهاً ترتسم السعادة على ملامحها وأخرى يكسو الحزن وجهها.من بين حالات كثيرة شاهدتها وسمعتها في ذلك اليوم، وأثرت في نفسي كثيرا، كانت حكاية امرأة خرجت من إحدى القاعات والصدمة تبدو واضحة على ملامحها تجرجر قدميها وبجوارها ابنها وابنتها ، تمشي وكأنها تحمل جبالا من الحزن فوق ظهرها ، والدموع تنهمر من على خديها وخدود مرافقيها ، حينها شعرت بالأسى على تلك المرأة واعتصر قلبي ألما لرؤيتها في تلك الحالة ، فلم استطع منع نفسي من محاولة تقصي قصتها .علمت أن حال تلك المرأة لا يختلف عن حال نساء كثيرات في المجتمع ، امرأة طلقها زوجها وهي لا تزال شابة، وطلق معها أي علاقة تربطه بإبنيه اللذين أنجبهما منها، ولان تلك المرأة لم تكن تعمل وجدت نفسها مطالبة بإعالة نفسها وابنيها ، فوجدت في مهنة الخياطة وسيلة للكسب الحلال، حتى تقوس ظهرها من كثرة الانحناء على ماكنة الخياطة ليل نهار لتنفق على ولديها وعلى تعليمهما، فيما الأب الذي يشغل وظيفة مرموقة قرر أن ينطلق في حياته مجددا ويكون بيتاً وأسرة .الآن وبعد مضي عشرين عاما ، عاد الأب إلى الظهور في حياة أسرته السابقة لا لأن شعور الأبوة استيقظ فيه فجأة أو انه أراد تعويضهما عن المرارة التي شعر فيها أبناه طوال تلك السنوات لتخلي والدهما عنهما ، وإنما لرفع قضية ضد طليقته وابنيه منها لإخراجهما من البيت الذي يعيشون فيه والذي قرر بيعه دون أن يتوقف للحظة واحدة ويسأل نفسه عن مصير ابنيه اللذين استشعرا هما وأمهما الخطر الذي أصبح يتهددهم فلم يجدوا سوى القضاء ملجأ لهم ، أوليس القضاء هو ملاذ المظلومين الذين يبحثون عن الإنصاف .وعلى الرغم من أن حكم المحكمة الابتدائية كان في صالح الأم وابنيها بتمكينهم من البيت الذي يعيشون فيه، إلا إن ذلك الحكم لم يعجب الأب ، فواصل المضي في طريق المحاكم . وفي المحكمة العليا كان الحكم مغايرا عن السابق ، واقر بطرد الأم وابنيها من البيت وحتى مع وصول القضية إلى محكمة الاستئناف ، فان حكم طرد الابنين وأمهما من البيت بقي هو الحكم الصادر بحقهم ، وأصبحت تلك الأسرة مطالبة بتنفيذ أمر المحكمة بالخروج من المنزل التي عاشت فيه تلك السنوات الطوال حتى وإن كان ذلك يعني بقاءهم مشردين في الشوارع .وأنا هنا لن أقول إن القوانين اليمنية غير منصفة ويشوبها القصور في بعض النواحي ،لان ذلك ليس من اختصاصي، كما أني لن أكيل التهم للقضاة فيما يخص الأحكام التي يصدرونها ولكنني أقول لهم تخيلوا أنفسكم أنكم لاتشغلون تلك المناصب التي تشغلونها بل أناس عاديون وان ذلك الحكم صدر بحق أمهاتكم ، أخواتكم ، بناتكم أو حتى بحق إحدى قريباتكم ، حينها تخيلوا كيف سيكون شعوركم تجاه تلك الأحكام الصادرة التي تقضي بتشريد أسرة ورميها إلى الشارع ؟ أين سيذهبون والى من سيلجؤون وان كان هناك احد سيقبل بإيوائهم اليوم ما الذي يضمن انه سيقبل بهم غدا ؟؟سادتنا القضاة .. إني أخاطب فيكم ضمائركم ، فانتم بشر قبل أي شيء، وحتى في الأحكام القضائية التي تصدرونها وفقا للقانون فإن الإنسانية مطلوبة عند النظر في قضايا من هذا النوع عندما لا يتوافر لتلك الأسر أماكن بديلة للعيش فيها.
قضاتنا الأفاضل : أين يذهب الأبناء؟
أخبار متعلقة