نجمي عبدالمجيد تاريخ الحكايات الشعبية في عدن وما دون من أساطيرها وخرافاتها في بعض المصادر وما غاب عن التدوين وما ذهب في عمق النسيان ، هو التاريخ الروحي والنفسي لإنسان هذه المدينة وامتداد رحلة حياته فيها بما حفلت به المخيلة من ذلك التراث الذي كان من معالم الناس والحياة في عدن لحقب طويلة من الزمن. ما ضاع من هذا التاريخ بسبب عدم التدوين، إلا في القليل النادر، ورحيل أجيال من العامة كانت تعد الذاكرة الشعبية لحفظ ورواية هذا الجانب وتغير ملامح عدن كمدينة ،كل هذه الأشياء ساعدت على إهمال هذا الاتجاه المرتبط بتاريخ العادات والتقاليد عند الشعوب. وعدن كمدينة تجارية موقعها على البحر متصلة الحركة مع العالم أنتجت أساطيرها وخرافاتها وحكمها وأمثالها الشعبية التي عبرت عن كل حقبة مرت بها وتنوعت كما تنوع سكانها وتقلبت الأحداث عليها كذلك ارتبطت معالمها التاريخية مثل الصهاريج وقلعة وبحر صيرة وباب عدن بعدة خرافات وأساطير إضافة إلى ما قيل عن كرامات الأولياء والسادة فيها وكان يمارس من السحر والزار والفال وغيرها من العادات الاجتماعية التي ظلت لعقود من الزمن من الحاجات المرتبطة بحياة الناس في الخير والشر.ولكن لماذا هذا التاريخ الشعبي لم ينل حظه من الحفظ وظل محصوراً في ذاكرة الأفراد وكلما رحل فرد من ذلك الجيل غابت معه حكايات لو دونت لكانت مرجعاً تراثياً لا غنى عنه لكل باحث يدرس هذا الجانب من تاريخ عدن.
[c1](الحواديت) والأساطير الشعبية في عدن الصغرى[/c]من المصادر الحديثة التي دونت بعض حكايات هذا التاريخ ما جاء في مجلة (المصافي) الصادرة عن شركة BP التي كانت تعرف باسم ( عدن) العدد 2 عام 1960م ولم يذكر اسم كاتب المادة ولكنها قدمت معلومات مهمة عن حقبة من تاريخ البريقة قبل أن تتحول إلى منطقة صناعية في عام 1954م وقد جاء في هذه المادة التاريخية( أن شبه جزيرة عدن الصغرى تزخر بالحواديت والأساطير الشعبية.. وسكانها يستطيعون أن يرووا الكثير من هذه الحواديت والأساطير الغريبة وذلك في ما يخص الجن والعفاريت الذين يقال عنهم إنهم كانوا يسكنون في الصخور والهضبات الرملية في البريقة التي احتلتها الآن المصافي ومداخنها ووحداتها المختلفة. إن سكان البريقة عاشوا يعملون في صيد السمك لأجيال طويلة .. وهذا يشرح إلى حد ما وجود الأساطير الشعبية والحواديت الكثيرة التي يرويها بعض الأفراد بشغف بالغ.. إن الصيادين في جميع أنحاء العالم يقومون بأقاصيص وحكايات البحار أكانوا يصطادون السمك في سواحل بريتاني أو خلجان النوروي أو نيوفاوندلاند أو خارج خلجان قريتي بير فقم والخيسة. وهذه الأقاصيص والحواديت والأساطير الشعبية ترتكز على فكرتين أساسيتين : الفكرة الأولى هي ضرورة تهدئة البحار التي تعتبر كأنها قوة في حد ذاتها أو أماكن مأهولة بالأشباح والأرواح والجان أكانوا للخير أم للشر. أما الفكرة الثانية فهي لغرض تجاري محض. فهناك الحاجة الملحة لاصطياد اكبر عدد من السمك بأقل مجهود ممكن.. ويمكن تحقيق هذا الغرض التجاري بضمان تعاون تلك الأشباح الخارقة للعادة وهي تسكن البحار وتتحكم في أحوالها وحالاتها. ولهذا السبب فان عدن الصغرى تزخر بأقاصيص وحواديت الجان الذين لا يراهم الإنسان والذين لهم القوة السحرية للتحكم بأشياء عديدة بما فيها البحر وأسماكه. إن هؤلاء الجان.. كما يظهر من الأقاصيص والأساطير الشعبية.. تظهر وكأنها حقيقة ملموسة أمام الناس والصيادين .. وتروى هذه الأساطير الشعبية من جيل إلى جيل.. وقبل أعوام قليلة كانت تقدم لهؤلاء الجان المأكولات باستمرار. وبما أن الأساطير الشعبية تقول إن الجان كانوا يتحكمون في البحر وسمكه فكان لابد من أن يقدم لهم باستمرار نوع خاص من الأكل. ولهذا فقد كان يجتمع في شهر سبتمبر من كل عام عدد كبير من الصيادين لشراء التمر لوضعه بالقرب من ولي الله الصالح احمد بن احمد عمر الزيلعي المعروف باسم “ الغدير” وبعد مضي أربعين يوماً يحمل التمر إلى جهة أمام جزيرة “ صليل” حيث يسكن - كما تقول الأساطير والحواديت الجني الرئيسي في المنطقة ويعرف باسم “ صليل - الكبير” ثم تقسم كمية التمر إلى قسمين : قسم يؤخذ إلى الولي الصالح “ الغدير” وثلاثة من الجان التابعين له .. والقسم الأخر يؤخذ إلى ثلاثة آخرين من الجان الذين يسكنون في جبال عدن الصغرى. وكان هناك أناس مخصصون يحملون هذه الكميات من التمر وكانت نفس هذه العملية تتكرر في شهر يونيو من كل عام. وبما أن الهدف من هذه الهدايا هو جعل الجن يفرحون.. فإن الصيادين يتوقعون مجيء السمك بكثرة.. أما إذا لم تفلح هذه الطريقة فإنهم يلجؤون إلى طريقة أخرى ألا وهي تحضير خروف احمر وذبحه بالقرب من مخبأ الجني المعروف باسم “ أبو قيامة” بجانب ولي الله الصالح “ الغدير” ثم يأخذون هذا الخروف والدم ينزف منه مع كمية من السكر والتمر والحلويات والبخور ويرمونه إلى البحر. وفي بعض الأحيان يذبح خروف ويرمى إلى عرض البحر مع بعض المأكولات وذلك بالقرب من جزيرة صليل .. والهدف هو الوصول إلى قلوب الجان ولكن إذا كان الجن لم يجلبوا السمك إلى قرب السواحل فان الصيادين يطبخون بطريقة سرية جداً خليطاً من الدقيق المطحون وزيت السمسم ويذهبون سراً بعد منتصف الليل إلى مكان يقطن فيه جني يدعي (الضربة) وذلك بالقرب من محطة الكهرباء التي تدار بزيت الديزل في الطريق إلى مستشفى المصافي في البريقة .. ثم توضع الشباك على الأكل وبعد ذلك ينشر الأكل في أماكن مختلفة من المنطقة.وهذه العملية تنتج عادة صيداً وفيراً وهذا هو ما يطلبه الصيادون. والجان هم مخلوقات نارية أو هوائية ذكية جداً .. لا يراها الإنسان .. ولكنها تظهر في أشكال مختلفة .. وتؤذيه.ومن الأقاصيص التي تروى، أن بعض الجان من النساء يحاولن كسب قلوب الرجال من بني أدم وذلك باستخدامهن جميع وسائل الإغراء .. وفي بداية الأمر تغري الرجال على حسب الحواديث ولكنهم يكتشفون بعد ذلك أن النساء الجميلات الفاتنات ـ الحسناوات هن من الجان وإنهن يضمرن الشر فيقرؤون سوراً من القرآن الكريم ومنها آية الكرسي.ولا تزال في البريقة تروى قصة الجنية المشهورة (معجز) فقد كانت يوماً ما تمشي على شاطئ الغدير وتمشط شعرها ثم رآها صياد وأسرها وربطها إلى شجرة شائكة قطعها بعده أربعة رجال .. ولكن (معجز) قتلتهم ثم تنقلت في البريقة .. ولإدخال البهجة إلى قلبها ليأمنوا شرها فقد ركز الصيادون جذعاً عليه علم جديد .. ويقال إنها كانت تزور هذا الجذع من الشجرة في فترات مختلفة .. وإذا مر أي إنسان بالقرب من جذع النخلة فإنه لأشك يشعر بالخوف والرهبة.وجاءت المصافي لتغير وجه الصحراء إلى مدينة عامرة بالسكان .. وأزيحت هذه الأساطير .. ولكن (معجز) كما تقول الحواديث ـ ظلت تسكن في منطقة (بئر أحمد) حيث يحتفل بزيارتها في يوم (5) ديسمبر من كل عام.من الأماكن التي دارت حولها الخرافات في عدن منطقة الصهاريج والتي تعود إلى زمن بعيد من عمق التاريخ، فقد كان العديد من سكان عدن يظنون أن من حفر هذا الخزانات العملاقة هم الجن، ولا غرابة في مثل هذا الكلام فإن الكثير من الأشياء العجيبة في نظر العامة ترد إلى قوة خارج سيطرة الإنسان، وتلك خاصة عند العرب فقد قال الشاعر أبو العلا المعري: (كلما رأوا حسناً عدوه من صنعة الجن).فقد ارتبطت في مخيلة سكان عدن البسطاء حكايات عن المردة والجن والعفاريت التي تسكن الصهاريج، وعن السحر الذي يمارس فيها بعد منتصف الليل وما يلقى فيها من أعمال الشعودة والشر، وحكاية الجنية التي تخرج بعد منتصف الليل ويكون القمر غائباً لتغوي أول رجل تصادفه، وتطلب منه أن يوصلها إلى منزلها في (بركة عنبر)، وهناك من سكن منطقة الطويلة في عهود سابقة من تحدث عن أصوات غريبة تسمع في الصهاريج، وكذلك الطبل والمزمار، وعندما تسقط الأمطار على عدن وتصبح الصهاريج غارقة بالمياه ، كان العديد من الشباب يذهبون إلى السباحة ويغرق بعضهم، فكانت العامة تظن أن الجن هم من يأخذون أرواح الشباب لأنهم تجاوزوا مكان (الحد) ومكان الحد في لهجة أهل عدن الفاصل بين مكان الإنسان والجن.كذلك عرفت منازل عدن القديمة خرافات وأساطير عن الجن التي تسكن هذه البيوت وما يوجد في بعضها من كنوز مدفونة يحرسها جني يظهر في بعض الأحيان بشكل ثعبان أسود أو قط أسود عند منتصف الليل، يظل يحرس الكنز حتى يأخذه صاحب النصيب من البشر.ومن تلك الحكايات ما يدور حول المقابر، قبور السبع البنات العذارى، والجنية التي كانت تظهر في مقبرة المعلا القديمة بعد منتصف الليل، وقد شاهدها بعض الرجال وهي تمشط شعرها الأسود الطويل، وكانت تنادي بعض الرجال بأسمائهم وقد أصيب عدد منهم بالجنون وحالات نفسية لأنهم ذهبوا إليها).إن الحقب التاريخية التي أوجدت مثل هذه الخرافات والأساطير، يجب أن تؤخذ من وضع عدن الجغرافي في الأزمان السابقة، فقد كانت (كريتر) هي موقع السكن، أما المناطق الأخرى فلم تكن قد ظهرت للوجود وكان يطلق عليها في مفردات أهل عدن (خبت ـ قفزة) وتعني أماكن خالية من الحياة والناس، ولكن هذا لا يعني أن مناطق الحركة السكانية قد خلت من تلك الحكايات مثل منطقة صيرة التي دارت حولها عدة خرافات وأساطير عن جنيات البحر والمردة الذين يسكنون تلك المناطق، وما كان لهم من أحداث مع الصيادين، وكم اختفى منهم في عمق البحر؟ لأن الجن قد أخذوهم إلى دنياهم ولم يعودوا.وهناك حكاية المدينة الغارقة تحت البحر في منطقة تدعى (خلاد) على مسافة من معاشق، حيث تشاهد وقت الظهيرة مدينة غارقة،و قد قيل إن الجن من يسكن هذه المدينة ومن قال إنها عدن القديمة وهناك حكايات عن الأحجار التي تقذف على من يجلس ليصطاد السمك في جبل صيرة أو معاشق، أو في جزيرة صغيرة تعرف باسم (أم الحجار) في التواهي عند ساحل العشاق.وكان للمناطق البعيدة عن عدن حكاياتها في هذا الجانب مثل منطقة المملاح، المارد الذي يظهر بعد منتصف الليل، وقد أرعب كل من شاهده في هذا المكان، أو المارد الذي يقف في الطريق بين الشيخ عثمان والبريقة، وقد كانوا يقولون إن الحيوانات مثل الحمير والجمال وهي من وسائل النقل عند أهل عدن قديماً، لا تسير إن شاهدت هذه المخلوقات بل تقف وعندها يدرك صاحبها إن الجن قد اعترضوا طريقه.تلك حكايات هي من روح عدن الاجتماعية وتصوراتها النفسية وما يسرح بها الخيال وهموم الحياة، ولكن الكثير منها قد غاب ولم يدون ليست كخرافة، إنما كعلم يدخل في عادات ومعتقدات الشعوب .. هناك مثل يقول (كل عجوز يموت هو مكتبة تدفن) بمعنى أن التاريخ الشفهي لا يحفظ الا في العقل ويورث عبر الكلام، وعند ما يرحل الفرد ترحل معه الحكاية وتغيب قصص وأخبار وتفقد الشعوب والأماكن بعضاً من تاريخها الماضي وذلك ما أصاب الخرافات والأساطير العدنية، من إهمال في التدوين وفقدان الذاكرة، وتلك أسباب ساعدت على عدم معرفة التاريخ الشعبي لعدن عبر عقود من الزمن.