هذه ليست دراسة تاريخية عن أهلنا من القادمين إلينا كأشقاء وأصدقاء من الأحقاف التي يطلق عليها في كتب السيرة والتاريخ (حضرموت) الأرض الطيبة التي أخرجت وقدمت لنا صحابة وعلماء وكُتاباً (بضم الكاف) وسياسيين ومدرسين ووجهاء ورجال أعمال وهامشيين .ولكنها كلمات واجبة وجدت نفسي أسطرها بصدق وموضوعية عن إخواننا الحضارم كما نسميهم في الحجاز والمملكة بصفة عامة .. فقد وجدناهم بيننا مثالاً للأمانة والديانة .. وأصبحت صفة الأمانة علامة مسجلة لتلك الأجيال التي قرأنا عنها وعرفناها وعاصرنا بعضها .. إلى أن تغير الحال وأتت رياح التغيير الإنسانية بوجوه جديدة .. وأجيال أخرى لم تعد تفضل ارتداء (الفوطة) التقليدية والتي يشاركهم فيها الكثير من أبناء الحجاز والحارة ويفضلون ارتداءها في الراحة المنزلية وحتى لعبة المزمار الشهيرة التي افتقدناها وانطفأت نارها وحماسات رجالها .. وأصبحت فلكلوراً تلعب في المواسم والأفراح .وقد اشتهر الحضارم بالهجرة .. والتأقلم مع البلدان التي يحلون فيها للرزق والعيش .. فنراهم منتشرين في أصقاع الأرض .. يمارسون إلى جانب التجارة والبيع والشراء التي برعوا فيها .. الدعوة والحرص على نشر الدين الإسلامي .. ولهم الفضل بعد الله في نشر الإسلام وتعاليمه في شرق أسيا وأفريقيا .وصدق الشاعر السيد البار حين وصف تلك الهجرات من خلال صوت الموهبة محمد جمعة خان قائلاً :مسكين .. مسكين أبو حضرم أتغرب وساح طائر ولاله جناح الفجر ولى وراح .لقد دخل أهل حضرموت الإسلام في العام السابع للهجرة من خلال وفدهم الذي تشرف بزيارة سيد المرسلين النبي الأمين محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام .. وكانوا من وقود الإسلام وأهم مناصريه والمساهمين في انتشاره .وقد لايعرف الكثير من المعاصرين .. أنه وقبل أن نعرف في مملكة الخير (السعودية) نظام الكفالة للأجنبي أو استقدامه .. كما هو متعارف عليه الآن بوجود هذا الكم من الأشقاء والأصدقاء العرب والأجانب الذين يساهمون معنا في عجلة التنمية الوطنية .. إن أول خواجة يملك محلاً لبيع المخللات والاجبان في جدة القديمة أيام السور وبيوتها التي لم تتجاوز بحر الأربعين مساحة .. الخواجة الشهير (يني) كان تحت كفالة التاجر الحضرمي أيامها محروس الخنبشي .. الذي كان أيضاً أول من أدخل أجهزة المذياع (الروادي) والعطور وأول من استورد سيارة انجليزية من نوع (ويلز).بمعنى أن الريادة كانت لإخواننا الحضارم الذين كانوا أول من كفل الأجانب في جدة. أن العمل لدى أخواننا من أهل حضرموت له احترامه ولايمكن أن تضيع لديهم بعون الله حقوق الغير.. وللزمن أهميته ويحرصون على العمل بكل أنواعه من اصغر الأعمال واقلها إلى العمل المصرفي .. فالعمل مقدس مهما كان مستواه ونوعه .لقد دخل الحضارمة إلى المملكة العربية السعودية فقراء ولكنهم استطاعوا أن يصبحوا من خلال العمل والأمانة والصدق مع الناس والنفس .. من كبار رجال الأعمال وساهموا في اقتصاد الوطن .. وإنشاء العديد من المنشآت الوطنية التي ساهمت في عجلة التنمية الوطنية .. والحضارم أقلية في اليمن الأم أرض الحضارات التي باركها الرسول الكريم عندما وصفها بأرض الإيمان والحكمة .. ولكنهم في العرب كما يقال كقنطار ملح في صومعة كبيرة من صوامع الغلال .. تجاوزت مساهمتهم الحياة الاقتصادية .. إلى الحياة الفكرية الإنسانية .. والتاريخ يشهد للعظماء الذين قدموا لنا تحايا جميلة في هذا المجال كابن خلدون صاحب المقدمة الاجتماعية الرائعة .. والصحابي ابو العلاء الحضرمي والأديب الشاعر علي باكثير وغيرهم ممن لاتحضرني أسمائهم في هذه العجالة .لقد تعودنا منهم التواضع والنفسية الطيبة في التعامل وحب الخير .. وعدم الاعتداء على الآخرين أو التطاول على الناس في أعمالهم ومنافستهم في أرزاقهم .. لإيمانهم بأن الأرزاق من الله ولايمكن للمرء أن يجد سوى ما سعى له أو أعطاه الله .ومن خلال البساطة في التعامل والشكر على النعمة وعدم الجحود والاعتداء على حقوق الآخرين مهما كانت مغرية .. استطاعوا أن يحققوا ذاتهم ومكانتهم في الحياة الاجتماعية .ولكنا وجدنا أن تلك الأجيال المدرسة في التعامل والعطاء .. أصبحت في الطريق إلى الانقراض .. بعد أن أصبح الجيل الجديد منهم لايتقيد بتلك العادات والقيم التي زرعها الأجداد على امتداد أجيال وأجيال .. وكانت معروفة فيهم ومثالاً يحتذى به .. لقد غيرت المادة التي وجدها الأبناء كميراث لكفاح الاباء والأجداد بكل قيمتها الاقتصادية في زمن أصبح فيه المقياس من خلال الاقتصاد والقدرة المالية .. وتخلوا عن تلك العادات الإنسانية الراقية .. بعد ان طغت عليهم المدنية والعصرية بكل متغيراتها .لقد أصبح الجيل الجديد من الحضارم .. اقرب إلى الغرب منه إلى الشرق العربي الأصيل .. وتراث الأجداد الذي كان عنواناً للعمل والأمانة والتطور .. بعد أن أصبحوا يتبعون أساليب بعيدة عن تلك الأساليب الرائعة لجيل الرواد .. أصبح بعضهم ينافس الغير في أعمالهم وبطرق بعيدة عن المنافسة الشريفة .. حتى يستطيعوا زيادة مدخراتهم وإتباع أساليب الغش والخداع التي كانت يبتعد عنها الأجداد في تعاملهم .متنكرين لتلك الصفة الإنسانية التي كان يشتهر بها أبناء الاحقاف في تعاملاتهم وتجارتهم بعد أن أصبحت بعض أعمالهم أكثر ازدهاراً .. وعافوا السكر بعد أن توسعت تجارتهم ولم يعد يفرق بينهم وبين الآخرين سوى الرصيد والبنكنوت ونوعية السلع المستوردة والأسعار .حتى أن بعضهم من اجل تحقيق مكاسب دنيوية زائلة .. أصبح حريصاً على أن يجمع لديه مناصب وقتية وموسمية وشهادات متقدمة لم ينالوها بالدراسة والاجتهاد بل بمراهم العصر التي أصبحت مقياساً لحياتهم وتاريخهم القصير .ان ما اكتبه بمثابة رأيوكلمات واجبة عن إخواننا الحضارم زمان والآن أو الحضارم بين جيلين .. بعد أن تغير الحال .. فهل يعي الجيل الجديد منهم الذي وجد تاريخاً ناصع البياض وثروة لايستهان بها .. إن تاريخ الأجداد كان أكثر بروزاً وأهمية من تلك الأموال التي أصبحت بين يديهم ويحاولون استثمارها.. فلماذا لايركزون استثماراتهم في التاريخ الجميل للأجداد .. ويقدموا الصورة الواقعية لتاريخ الحضارم الذين قال أمير البيان المؤرخ شكيب إرسلان أن مجدهم الحقيقي خارج وطنهم .أم أننا سنردد مع البار على مر التاريخ .. تلك الكلمات المعبرة الحزينة عن واقعهم الأزلي حتى يحين فجر الوفاء :❊ ناشر ورئيس تحرير مجلة العقارية عضو هيئة الصحفيين السعوديين
أخبار متعلقة