حضور النص الغائب في رواية (عراقيون أجناب)
عبدالرحمن مجيد الربيعي [c1] - 1 -[/c]قرأت رواية الصديق فيصل عبدالحسن “عراقيون أجناب” قبل أسابيع، هذه الرواية التي كتبها في المغرب حيث يقيم، وحظيت باهتمام واضح إذ تعددت القراءات لها سواء على صفحات جريدة الزمان أو جرائد مغربية أو عربية أخرى.لكن قراءتي لها جعلتني أتوقف عند جانب هو الأساسي فيها، إذ أنها تطرقت وبشكل تفصيلي إلى العادات والتقاليد الشعبية العراقية من خلال قرية على ضفاف الأهوار .إن فيصل عبدالحسن يذكرني بروائي آخر هو من أكبر مجددي القصة القصيرة العراقية في أثرى فتراتها وأكثرها تدفقا وغليانا جيل الستينيات، أما هذا الروائي فهو جمعة اللامي .لكن اللامي يفيد من ثراء الموروث الشيعي في مدونة لا تُعنى بالتفاصيل، بل بالروحية، وتمثل هذا في رواية “مجنون زينب”، ثم روايته الجديدة “المقامة اللامية”.[c1]- 2 -[/c]هنا اعترف بأنني رغم كوني ابن الجنوب، وقد لحقت بتلك السنوات سواء بالفترة الملكية أو بالسنوات الأولى من العهد الجمهوري، خاصة فترة حكم الزعيم الوطني المغدور عبدالكريم قاسم، التي كان تقديم كل الطقوس الشيعية في أيام عاشوراء مسموحا به، قراءات حسينية ومواكب عزاء، والضرب بالزنجيل والقامة ...الخ، وتوزيع الهريس واللحم بالقيمة .وقد أفدت شخصيا من هذه الطقوس لأنني فتحت عيني عليها مراقبا، وليس مشاركا، كما هو شأن الكثير من زملائي في الابتدائية .لا بل أنني حضرت مرة التشابيه في الشطرة، وهي إعادة لتمثيل مقتل الحسين عليه السلام، والغريب أن هناك شخصيات تختص بتمثيل نماذج معينة، وكان أحد أقرباء جار لنا، واسمه رسول، مختصاً بتمثيل دور الشمر قاتل الحسين، وكاد يقتل كما روي لي على يد إعرابي ظنه الشمر حقيقة.هي حكايات ومشاهد تسرب البعض منها إلى نصوصي، ولكن ليس كما حصل عند فيصل عبدالحسن. أذكر هنا قصتي الطويلة “مملكة الجد” التي أعجبت السوفيت وترجموها قبل سنوات على سبيل المثال. ويبدو لي أن العراق بفسيفسائه وتركيبته العرقية والدينية، هو مادة ثرية للكتابة السردية شريطة أن تظل في الإطار الوطني إذ المسألة حساسة جداً. إنني افتقد لرواية تتحدث عن الأشوريين مثلا، وحتى الكتاب الذين ينتمون لهذه الطائفة، وهم كثرة، لم يكتبوا عنها. لنقرأ نصوص سركون بولص السردية المبكرة ثم قصائده وهو الاسم الأبرز. لأن المتلقي يبحث عن الجانب الإيجابي في المسألة ويتعرف على ما لا يعرفه عن طائفة أساسية في بنية المجتمع العراقي وكذلك الأمر بالنسبة للصائبة وما لهم من طقوس مائية ثرية لم تكن موضوعا لعمل روائي كبير، ولي أن أستغرب هذا .حتى الروايات الكردية وحيث يشكل الأكراد القومية الثانية في العراق أو التركمانية، وهنا تعنيني الطقوس والعادات والتقاليد، فإنها غير موجودة بشكل واسع. أتذكر قصص الراحل عبدالصمد خانقاه، وقليلا من قصص يوسف الميدري، وروايات فاضل العزاوي التي تقدم اختلاط التركيبة المتفردة بمدينة كركوك، لكن مع طغيان الخطاب السياسي نظرا لقوة حضوره في المياه العراقية بحيث لا يمكن قفزه أو تجاوزه، وأيضا زهدي الداوودي في مجموعته المبكرة التي قرأتها “الإعصار” وهو كاتب كردي بالعربية .[c1] - 3 -[/c]أعود إلى “عراقيون أجناب” وأقول إنني شخصيا ألممت من خلالها بتفاصيل عن السيد حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم ومكانته، كذلك طقوس تنصيبه وماذا يعنيه في القرية الجنوبية. من المعروف أنه في كل قرية يقيم سيد أو يختص بالمرور فيها في أيام عاشوراء ليقيم المجالس الحسينية، ويتقاضى أجرا يجمع من أهل القرية، وهو المرجع بعد الشيخ في أمور الدين والشيخ في أمور الدنيا .ومن كان سيدا لا يتزوج إلا من ذرية رسول الله أي العلوية - كما تسمى - أما بناته فلا يتزوجن إلا من سيد مثله حتى لو أصبحن عوانس، ويبدو أن ما كنت أعرفه كان الوجه الظاهر، لكن فيصل عبدالحسن قادني إلى التفاصيل ومن خلال رواية عراقية عنيت بسكان منطقة معينة ومحددة من العراق وما عاشته من أحداث خاصة السياسية منها بحيث أصبحت منخرطة في أحداث رغما عنها ووظف بعض أبنائها ليكونوا عونا للنظام ضد أهلهم. حتى الأموال التي تجمع وأين يتم إيداعها في منطقة الحفيظ في أعماق الهور أعطانا فيصل عبدالحسن معلومات عنها، وكنت أظنها لغزا غامضا في الذاكرة والوهم أكثر منها حقيقة. وفي قصة مبكرة لي هي الوحيدة التي كتبتها عن الأهوار وعنوانها “سر الماء” عام 1974 بعد رحلة عدة أيام قمت بها إلى الاهوار أنا والصديق الفنان والكاتب اللبناني الراحل فاروق البقيلي قلت عن الحفيظ؛ الحفيظ هو المجهول المرعب بالنسبة لسكان الأهوار، وكلما سألت أحدا منهم عنه صمت خائفا أو أطلق بسملة مذعورة. فيصل عبدالحسن حول الحفيظ إلى مكان معلوم وصلت له طائرات الهليكوبتر الحكومية، وحملت كل خزينة من الذهب والمال، وكان السيد الذي يعيش شهور عمره الأخيرة، قد انتقل بمشحوف مع ابنه الفتي الذي سيرث عنه المكانة ليطلعه على السر، فإذا كل شيء قد ضاع وسلب أمام أعينهم وهم يتفرجون على ما يجري. إن الدلالة السياسية واضحة، لكن المهم أن فيصل عبدالحسن قد أخذنا إلى ما هو ناء وقصي في الوجدان الشعبي الجنوبي العراقي، وقدم لنا تفاصيله بل وأعطى لنفسه المساحة الكافية ليتجاوز المسكوت عنه ويحوله إلى معلوم، والرواية أخذت هذا البعد لكون كاتبها قد مضى بها دون أن يضع أمامه أي محظور أو يقع تحت سطوة أي خوف. وهذا أعطى نصا روائيا كان غائبا فجعله حاضرا.