قصة قصيرة
عبدالفتاح العودييا قرية الكداد ما اعجبك، كم مرت عليك النوائب والرزايا وانت وجبل النسور باقية .. ليس عليك من تبدل سوى ما تتوشحين به من نكبات ومآس يظل جبل النسور شاهدا عليها يردد اصداءها ويتداعى الزمان امامه وهو باق .. حتى كان ذات يوم حين تداعت المأساة بثوب ملهاة .. في عصر ذات يوم اثنان وبضعة فتيان تزدان بهم القرية .. عبدالرب وحسان الفقيه .. في عمر واحد في الثامنة عشرة ربيعا . . في غشية شيطانية ومرح الشباب اخرج عبدالرب مسدسا كان يتمنطق به زهوا .. وخيلاء .. ووجهه صوب عبدالرب __- سلم نفسك .. والا قتلتك .. (ظناً منه بان المسدس خال).- يا اخي لاتعبث بالسلاح يمكن فيه رصاصة ..!!- المسدس مليان .. سلم نفسك .. (يكذب عليه بغية ارعابه).- (يضحك حسان الفقيه) .. ان قتلتني .. قتلت نفسك .. من (كماي) لك..؟وفي برهة شيطانية .. ضغط عبدالرب على زناد المسدس .. فانطلقت رصاصة هشمت جبين حسان الفقيه.. سقط مضرجا بدمه .. بعد صرخة قوية ترددت لها اصداء جبل النسور .. قتلتني .. يا اخي .. آه..- ذهل عبدالرب .. وبالفطرة انطلق هائما على وجهه .. كالمجنون المذعور من كل شيء وقطع وهاد ودروب وادي السيل، .. تداعت اصداء الفاجعة على القرية والقرى المجاورة وانطلق جمع من قبيلة الفقيه واحلافهم يستقصون اثر عبدالرب، لكنهم عادوا بخفي حنين..كان لعبد الرب اخ يدعى عبدالمنان، احد عقلاء القرية الحاج نعمان رآه بعد ان علم بالفاجعة، فاخبره ان يخفي نفسه ويرحل .. لحدس وتوجس من الآتي..وكان كذلك، بعد ان يئس المطاردون لعبدالرب، قفلوا راجعين بان يفنوا بيت عبدالرب اولهم وآخرهم رأس برأس ولو على رأس بيت الفقيه، قبل ان تبرد جثة القتيل.. اما عبدالرب فقد اجهشت امه بالبكاء وجدته هما مالديه بعد ان هاجر ابوهم الى ماوراء البحار ولم يعد له خبر او اثر يذكر.. وامام هذه المأساة خف عبدالمنان مسرعا قبل ان يصل مطاردو اخيه.. وبينما هو يهم بالهبوط الى سهل وادي السيل رمقه احد المطاردين فنادى .. عبدالمنان ياخبرة.. قبل ماتبرد جثة المقتول..سمع عبدالمنان نذير الشؤم .. ولم يدر كيف سقط من النجد حتى قلب السهل لكنه فوجئ بطوق حصار .. واصداء ترعد وتزبد .. بهدر دمه بديلا عن الهارب وفي ذلك السهل كان راع اسمه عفيف في الخامسة عشرة من عمره، سأله احد افراد الطوق رأيت عبدالمنان.. مر من هنا..؟- لم اره ..واثناء ذلك استدار عفيف .. فتجمد .. امام مشهد شبه شخص متكور على نفسه بحجر صخرة يكاد ان يخترقها وعينان جاحظتان تشيان رحمة وتوسلا ورعبا من سوء المصير.- احد افراد الطوق .. هاه عفيف ما لك تيبست .. شفت الصيدة..؟- لا .. رأيت جذع شجرة حسبته ثعبانا..- ثعبان . .ثعبان . .والا كلب بيت الصارم (يقصد عبدالمنان).لم يدر عفيف لم اصابت تلك النظرات صميم فؤاده . .توسلات عبدالمنان الضحية البريء .. الخلوق الطيب، فأمعن ودون ان يدري بتضليل الطوق اذ انطلق كالسهم صوب النجد، ثم صاح يا اهل بيت الفقيه والقراد .. شفت شبه شخص ... ولى من باب الفرضة .. وكان باب الفرضة الحد الفاصل بين قرية الكداد وبداية دروب ووهاد وسهول واشواك واحراش تهلك وتضيع فيها الجمال.. انطلق المطاردون صوب باب الفرضة وكان قد ازف الاصيل وبدأت شمس المغيب تتحدر من سنام جبل النور .. وظل المطاردون يزبدون ويرعدون اما عبدالمنان فقد انفك عنه الطوق .. وبكى خشية وخشوعا لله الذي سخر له قلب طفل يكون المنقذ مما هو فيه .. فانطلق كالفأر المذعور لايلوي على شيء قطع وادي السيل وجبل الهجهاج ودروب وادي الذئاب، حتى صادف اول سيارة راحلة الى عدن في صباح ليلة مرعبة .. وكانت عدن الملاذ..!اما عفيف فدفن ذلك السر في اعماقه ولم يبح لاحد خشية قتله او نبذه ان علموا بتضليله لهم .. يالعفيف ذلك الفتى الذي كل من رآه توسم به خيرا حتى ذات يوم عاد ابن عمه من عدن .. فاستقبله الناس وبدا مزهوا بينهم فهو طالب في الثانوية شاب وسيم الهندام .. احتفى به الجميع وهو الذي توسم في عفيف الذكاء والنباهة ونصحه بان عدن هي الاسلم له ليكون شيئا رائعا .. تلك الفكرة اصابت كبد لهفة عفيف الذي سمع عن عدن كثيرا وتمنى ان يراها .. حتى ذات صباح عاد ابن عمه ومعه عفيف الى عدن .. وكان عفيف مغمورا لوعة واشتياقا لها .. وهكذا كانت عدن الأم الرؤوم نبتت فيها احلام عفيف وازهرت واثمرت، حتى اصبح طالبا ذا شأن، وبينما هو في الشيخ عثمان وامام مسجد النور .. يتصفح مكتبة الشيباني لمح وجها مألوفا، لكنه يبدو كبيرا عما في ذاكرته، واشد ما شد انتباهه اليه انتباه ذلك الوجه له وسيرته ذهابا وايابا دون ان يفارق نظره عنه، وفجأة اقترب منه .. ياه .. انه عبدالمنان . .ياللصدفة . .انت عبدالمنان..؟- همس خفية .. ايوه.. انا ياعفيف .. بس اسمي الآن ناصر علي المسوري هذا اسمي الآن .. نادني به .. عبدالمنان .. مات من حين اخرجته من وادي الذئاب .. يا عفيف .. يا اعظم رجل رقبتي لك .. لانك رحمت خوفي ورعبي وعلمت ما عجز عنه اشباه الرجال..- عفوا يا عبد .. آسف .. ياناصر .. ما عملت الا الواجب .. وعاد لك عمر. وبعد برهة قصيرة .. وتبادل مودة غاب عبدالمنان (ناصر) في الزحام واختفى..حتى كان ذات صيف شؤم غائم عصبت الشمس جبينها وغابت وراء الغيوم خشية من ان ترى او تكون شاهدة على مذبحة .. وضلالة بني البشر حين تضل الحقيقة وتصيب الغشاوة عيون الجميع وتكون الفاجعة.كان عفيف قد اصبح شابا يافعا .. هاله ما رأى واشد من ذلك ثمة وجه مألوف غطته الدماء .. وصدر ممزق برصاصات اقترب منه وفرائصه ترتعد .. من ان يكون هو .. ايكون عبدالمنان .. اقترب منه .. آه .. انه هو .. اغمض عينيه بيده برفق .. ورأى ابتسامه ساخرة نبست بها شفتاه.- آه ياعبدالمنان . .يا ترى لما تتوسمك هذه الابتسامة .. مما تسخر هل من الدنيا الرخيصة .. بعد ان كشف الغطاء .. وابصرت الحور العين وجنة النعيم .. ام من فرارك من ثأر القبيلة .. الى ثأر المدينة .. يا لابتسامتك الساخرة.. واعمق ما فيها سرها وسحرها..؟!