في فصل “موقف من أنت ومن أنا” من كتابه “المواقف” جاء عن الشيخ محمد بن عبدالجبار بن الحسن النفري: (فقال لي اهرب، فقلت إلى أين؟ فقال قع في الظلمة!! فوقعت في الظلمة، فأبصرت نفسي).. غير أن أبا العلاء المعري لم يفقأ عينيه عنوة، ولم يسقط في الظلمة، وإنما كان من محبسيه يحارب الظلم والظلام اللذين كانا سائدين في عصره. ورغم إني لا أخال أن ما جاء عن شيخنا النفري، وما كان من أمر فلسفة أبي العلاء في اكتشاف حقيقة الظلمة والظلم ومن ثم محاربتهما لهما في زمانيهما، إلا حقاً. ولكننا اليوم هل لنا وفي هذا العصر أن يلزمنا الأمر كي نكتشف واقعنا المظلم أو أن نسعى إلى تخليصه من شوائبه وظلمه أن نعيش الظلام؟ أو أن يفقأ أحد عينيه؟ على أن لا نستكين إلى تكميم الأفواه من قول كلمة حق لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس!! أو إلى قمع وجبروت متسلط بأساليب هي أقرب إلى الشر منها إلى الخير ابتدعها باسم الدين أو بالتأويل الباطل أو بالتضييق على ما نكتب أو ننطق أو بمصادرة الفكر؟.حرية الفكر كما نفهمها جميعنا ببديهية هي شيء لا يختلف عن حرية الحياة أو حرية الوجود.. فسيان أن يمنع إنسان من أن يحيا أو يمنع من أن يفكر. الفكر لن يعني لنا موقفاً، والإيمان لن يعني لنا التزاماً إذا ما بطل مدلول الكلمات، واستحالت ألفاظنا وفكرنا إلى ضرب من الخداع والغش كما يقول الكواكبي رحمه الله.. فإذا ما حدث ذلك لا سمح الله يزداد انطباق الظلام على وهج الحق الذي نحمله. ومع كل ذلك يظل الشعور بحاجة إلى قبس النور ووهجه، ساعين بكل ما أوتينا من إيمان كي لا تنطفئ جذوته، أو أن تسدل أيدينا في دهاليز ومتاهات الظلام.حرية الفكر، وحرية البحث وحرية الاجتهاد هي السبيل إلى التفكير للنهوض بمجتمع كمجتمعنا المتخلف الذي فككنا عنه قيوداً كما نزعم كانت تأسر فكرنا وعقولنا قبل بطوننا وأجسادنا يوم أعلنا الثورة على (الرجعية والتخلف والانحطاط والجمود في العقول) وعلى ما ورثناه من آثارها لقرون خلت.حرية الفكر، وحرية القول وحرية الكتابة هي حق المرء في التفكير دون قيود أو اشتراط عليه بفتوى، وإنما ينبع حقه هذا مما يملي عليه فكره وضميره من سلوك تجاه مجتمعه ووطنه ومن عقيدة إيمانية سمحة لا تشوبها شائبة تمنعه من فهمها. هذه الحرية إن نحن قدرناها حق قدرها فإننا نستطيع أن نحقق من خلال ممارستها أهدافنا الثقافية التي ما زلنا نتخبط في فهم ماهيتها وأمورها وفحواها، ومنقسمين في ظل ولاءات وفتاوى تحت مسميات - الدين - وهو منها براء، أو عادات وتقاليد لا تمت بصلة إلى هويتنا أو أصالتنا، وإلى تحقيق مجتمع ديمقراطي يسوده الوعي الاجتماعي والثقافي، لكي نرتفع ونسمو بأنفسنا إلى مراتب الحرية والعدل والمساواة.. ومن خلال ثقافة واعية منفتحة على كل أطياف المجتمع ومشاربه وتفكيره.حرية الفكر والتعبير دائماً ما تبدو عند المعادين للتنوير بمثابة (الصورة) الشريرة والخبيثة لمجرد أنهم لا يستطيعون تقبلها جراء ما جبلوا عليه، ولذا فإنهم دأبوا على أن يبقوا متوارين وراء سلطان أو هيبة الدين وهو منهم منزه، ومتدثرين بالرأي العام في مجتمعنا المتخلف، ويتخذون من ذلك سيفاً مسلطاً على رقاب أولئك الذين يسعون نحو النور والمعرفة والارتقاء نحو تحقيق مجتمع واع يعرف دوره في البناء والتطوير والتنمية بعد أن يكون قد تعلم ومارس قيم الديمقراطية وفن الاتفاق والاختلاف، واحترام الرأي والرأي الآخر، والتسامح الثقافي والمعرفي الإنساني.حرية التفكير والتعبير تقرب ولا تباعد، تعلمنا كيف نحتكم إلى أصوات عقولنا وضمائرنا بعيداً عن رمي الآخرين وقذفهم بما ليس فيهم أو إلصاق التهم تأجيجاً للاحتراب العقائدي والمواجهات، التي قد تصل حد التكفير، أو التلاسنات التي تحمل في مضامينها جدلاً عقيماً ونزاعاً وترهيباً نخجل أن نسمع بمثله بدلاً من التسامح والحوار.. فالتسامح ولغة الحوار تخلق في عقولنا فكرة الحق، والحق يستلزم دعائم مهمة لإثباته، من خلال إرساء فضائل للمجتمع، اقتصادية واجتماعية وسياسية وحقوق وواجبات ومساواة مجتمعية، وقبول الآخر، والرأي والرأي الآخر، ومعتقدات المجتمع الفكرية والسياسية والأيديولوجية دون تعارض مع حرية الإنسان وفكره أو مناهضته عند التعبير عن رأيه.
أخبار متعلقة