خالد يحيى الأهدليزخر التراث الشعبي التهامي بالكثير من الحكايات الشعبية وغيرها من أشكال السرد الشفهي الشعبي التي تختزنها الذاكرة الشعبية وتتناقلها الأجيال منذ مئات السنين.إلا ان هذا المخزون الضخم من الموروث الحكائي قد أصبح في الآونة الأخيرة مهدداً بالضياع والاندثار بسبب موت الرواة والحفاظ واختفاء عادة القص كتقليد وممارسة يومية على مستوى الاسرة والمجتمع نتيجة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي مست صميم المجتمع في تهامة واليمن عامة.. وبروز مصادر ترفيه وتثقيف اخرى بديلة كالراديو والتلفاز والسينما والفيديو الى آخر هذه الوسائل العصرية التي أدت إلى تغيير اشكال الوعي وانقطاع الصلة بين الاجيال الجديدة وموروثها الشعبي عامة والشفهي منه على وجه الخصوص.وهو أمر يدعو الى دق ناقوس الخطر ويضع على عاتق الدارسين والمهتمين ـ افراداً ومؤسسات ـ مسؤولية تدارك ما تبقى من هذا الموروث والحفاظ عليه والاسراع في عملية جمعه وتوثيقه ودراسته.ومن هذا المنطلق تأتي هذه الوقفة القصيرة التي تحاول تسليط الضوء على بعض جوانب الموروث الحكائي في تهامة من خلال مقاربة الملامح الاساسية لابطال الحكاية الشعبية التهامية.وباستقراء الموروث السردي الشعبي في تهامة نجد انه يتشكل في معظمه من الحكايات الشعبية التي تتصدر ـ في مستوى حضورها في هذا التراث ـ بقية الاشكال السردية الاخرى.ويطلق العامة من أبناء تهامة على الحكاية الشعبية اسم (حلواله) وهو اسم منحوت من الافتتاحية التقليدية للحكايات الشعبية، إذ يبدأ الراوي سرده للحكاية ـ موجهاً خطابه للمتلقي ـ بقوله (حلا لي ولك) أي حلا السمر لي ولك ومنه جاءت التسمية (حلواله) والجمع حلاويل.ويطلق التهاميون ايضاً على الحكاية الشعبية مصطلح (خرافة) وخرافة بتشديد الراء، ويجمعونها على خراريف وخرافات.وهو اصطلاح قد يثير الالتباس ويؤدي الى الخلط بين اجناس التراث الشفهي إذ يشير هذا المصطلح الى شكل آخر من اشكال التراث الشفهي هو الحكاية الخرافية وهو شكل سردي شفهي قليل الحضور في الموروث التهامي ويختلف عن الحكاية الشعبية وبينهما فروق اساسية تمس البنية السردية وطبيعة الاحداث والفضاءات الحكائية لكل منهما فاذا كانت الحكاية الخرافية تؤسس لفضاءات من السحر والغرائبية فان الحكاية الشعبية تمتزج بالواقع الحقيقي في اعمق اعماقه وهي حريصة على ان تشعر المتلقي بواقعية احداثها وشخوصها.والحكاية الشعبية ذات بينية سريدة بسيطة بل لكل حكاية شعبية بنيتها السردية الخاصة حيث تكاد كل حكاية تكون تأليفاً مستقلاً بذاته وتختلف عن الأخرى، اما الحكاية الخرافية فهي مركبة وذات شكل محدود وبنية مستقلة حيث تتوالى فيها الاحداث وفقاً لنسق معروف وملزم.ويرى ماكس لوتي ان الحكاية الخرافية ذات طريقة تجريدية في العرض ، كما انها تسموا بالموضوع والصور الى درجة المثالية ، اما الحكاية الشعبية فحسية تصور فيها العوالم الاخرى في دقة وتفصيل.وفيما يتعلق ببناء الشخصية في كل من الشكلين نجد ان البطل في الحكاية الخرافية يخضع لقانون النمو المتدرج فهو يبدأ مغامراته صغيراً وما يلبث ان يكبر حتى يصل الى الزواج بفتاة او اميرة لا تنتمي غالباً الى عالمنا الواقعي ، اما في الحكاية الشعبية فان البطل يظهر شخصاً كبيراً كامل الإدراك.وعلى الرغم من احتفاظ الحكاية الشعبية التهامية بملامحها وخصوصيتها التهامية التي تبدى من خلال ملامح الشخصيات والاحتفاء بمفردات البيئة التهامية فانها لا تختلف في جوهرها وخطوطها العريضة عن الحكايات الشعبية في تراث الشعوب والمناطق الاخرى فهي تتسم ببساطة البنية السردية وتنوعها وواقعية الاحداث والفضاءات وروح النكتة وهزلية المواقف وغير ذلك من الخصائص والسمات التي تتميز بها الحكاية الشعبية كشكل سردي شفهي له حضوره في تراث الشعوب جميعها دون استثناء.وتزخر الحكايات الشعبية التهامية بالكثير من الشخصيات القصصية التي تتباين فيما بينها من مستوى الحضور ودرجة الأهمية في المتن الحكائي فهناك شخصيات رئيسة تحمل على عاتقها مهنة صناعة الحدث في الحكاية وهناك شخصيات ثانوية هامشية لا يتعدى دورها استكمال المشهد واضفاء الملامح الواقعية على الحكاية مثل شخصيات الزوجة ، العمة (ام الزوجة) والابن والابنة لذلك كان من الطبيعي الا نجد اهتماماً ببنائها واظهار ملامحها كما هو الحال مع الشخصيات الرئيسة.واجمالاً يمكننا تصنيف شخصيات الحكاية التهامية في اربع مجموعات:أ) شخصيات معينة لها اسماء محددة ولها ابعادها وملامحها الجسدية والنفسية والذهنية والاجتماعية داخل الحكاية، وهي شخصيات رئيسة دائماً تضطلع بمهام البطولة وتقف في مقدمة الأحداث مثل شخصيات سالمين وعلى زنية ..الخ.ب) شخصيات ليس لها اسماء أو صفات معروفة فهي اما مبهمة تمام الابهام حيث نجد الراوي يقدم مثل هذا النوع من الشخصيات في مفتتح الحكاية بقوله (كان في واحد) أو (كان في وحد) ، او هي مبهمة في افراد جنسها كقول الراوي مثلاً (كان في راعي) أو (كان في تاجر) .. الخ، ويلعب افراد هذه المجموعة دور البطولة في كثير من الحكايات ، لذلك نجد احياناً اهتماماً بابراز ملامحها الجسدية والاجتماعية حسب ما تقتضيه سياق الاحداث في الحكاية.ج) شخصيات ثانوية مبهمة في افراد جنسها: مقهوي، راعي، عسكري، وزير.. الخ.د) شخصيات ثانوية معروفة أو موصوفة: الملك ، الحاكم، العامل، الوزير .. الخ. أما أهم ما تتميز به شخصيات الحكاية التهامية ـ سواء كانت رئيسة أو ثانوية معرفة أو مبهمة ـ هي في كونها شخصيات واقعية مألوفة تعيش بيننا باستمرار ويمكننا مشاهدتها في أي زمان أو مكان ، وتختفي منها الملامح الاسطورية وافعالها طبيعية واقعية وغير خارقة للعادة والمألوف.ولان الحكاية الشعبية التهامية ـ شأنها شأن كل الحكايات الشعبية ـ لا تتخذ صورة واحدة ولا تلتزم شكلاً واحداً ، بل تتنوع اشكالها وتتعدد بناها السردية فاننا نجد ضرباً من الحكايات التهامية يتخذ نسقاً خاصاً يشبه بنية المقامات حيث تضطلع بعض الشخصيات بدور البطولة في عدد من الحكايات فتغدوا كل شخصية محور تدور في فلكه مجموعة من الحكايات كحكايات (سالمين) مثلاً وفي هذا النوع من الحكايات الشعبية التهامية تبرر الشخصية الرئيسة في واجهة الحكاية وتهيمن على مجمل عناصر السرد فيها، بل ان العناصر السردية الأخرى ـ بما فيها الحدث ـ تأتي اصلاً لخدمة الشخصية وجلاء ملامحها وابراز سماتها ، لذلك غالباً ما تغدو هذه الشخصيات نمطية لها ملامحها الثابتة والمستقرة على الرغم من تنوع الحكايات التي ترد فيها وتعدد الاحداث التي تمر بها.ولما كان من المتعذر ان تلم هذه الوقفة القصيرة بكل أبطال الحكايات الشعبية التهامية فاننا نكتفي بالوقوف عند ثلاثة نماذج مختلفة من هذه الشخصيات:سالمين:حيث تستقطب هذه الشخصية الكثير من الحكايات الشعبية التهامية التي ينهض فيها سالمين بدور البطولة ويتصدر احداثها.فمن هو سالمين؟لا نعر ف اكثر من كونه عبداً اسوداً تجمع الحكايات الشعبية على تصويره كنموذج مثالي للغباء وسوء التصرف والتدبير مع ادعائه امتلاك الذكاء والحكمة وامتلاك القدرة على حل المشكلات ، ومن هذه المفارقات الساخرة تتشكل شخصية سالمين التي لا تثير سوى السخرية والضحك لدى متلقي حكاياته، فهل تعكس هذه الصورة التي ترد عليها شخصية سالمين موقفاً شعبياً ساخراً تجاه ذوي الأصول الزنجية في المجتمع التهامي؟ أم أن الأمر مجرد صدفة؟صحيح ان اصحاب البشرة السوداء (العبيد او الاخدام) قد أصبحوا الآن جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي التهامي ، لكن النظر إلى تاريخ العلاقة بين الطرفين التهامي المحلي (العكيين والاشاعرة) والزنجي الوافد يشير إلى أن الأمر ليس مجرد صدفة فهناك محطات تاريخية للصراع وتاريخ طويل من العلاقات العدائية بين الطرفين تمتد من الاحتلال الحبشي قبل الإسلام وحتى الصراع النجاحي الصليحي والنجاحي المهدي في القرنين الرابع والخامس الهجريين كان العنصر الزنجي خلال هذه الفترة غازياً ومحتلا ثم حاكماً فيما بعد ، وهو ما يجعلنا نميل نحو القول ان رسم المخيلة الشعبية لملامح سالمين على هذا النحو فيه موقف شعبي رافض للطرف الآخر.وبما ان الصراع في المحطة التاريخية الأولى كان صراعاً يمنياً حبشياً بينما كان في المحطة الأخيرة صراعاً تهامياً حبشياً فاننا نرجح بأن يكون هذا الموقف الشعبي قد ظهر إبان الصراع المهدي النجاحي، فعلي بن المهدي تهامي انطلقت ثورته من أرياف زبيد وجيشه من القبائل التهامية وهو الذي اسقط الدولة النجاحية واقام دولته المهدية على انقاضها وبالتالي فان المرجح ايضاً ان تكون شخصية سالمين قد ظهرت اما خلال القرن الخامس أو السادس الهجريين.ولكن هل ينصرف هذا الموقف الشعبي الرافض الى جميع اصحاب البشرة السوداء من ذوي الاصول الزنجية؟ او الى فئة معينة منهم؟ان تركيز الشعبية على الملاح اللغوية لسالمين يبرأ هذا الموقف الشعبي من تهمة العنصرية والتعصب العرقي المطلق ، ويصرفه نحو فئة معينة لازالت على صلة وطيدة بجذورها ولازالت تحتفظ بملامحها ولم تستطع الذوبان في كيان المجتمع التهامي كالنجاحيين مثلاً:فسالمين لازال ينطق الحاء هاء والقاف كاف والظاء والذال زاياً الى..الخ.وهو ما يذكرنا بالرواية التاريخية التي تذهب الى ان المهديين بعد ان اقتحموا مدينة زبيد عاصمة النجاحيين راحوا يمشطون المدينة بحثاً عن فلول النجاحيين فكانوا يستوقفون اصحاب البشرة السوداء ويطلبون من الرجل منهم ان ينطق كلمة عظم فان نطقها صحيحة تركوه (لان في هذه الحالة اما ان يكون عربياً او من اصول زنجية بعيدة) وان قال (عزم) قتلوه وبالتالي فان التركيز على اللكنة الاعجمية لسالمين إضافة الى كونه عبداً (والنجاحيون هم عبيد وموالي الزياديين) نشير الى ان المخيلة الشعبية جعلت من سالمين نموذجاً ورمزاً للنجاحيين.علي زنية:وهي شخصية رئيسة تتمحور حولها كثير من الحكايات الشعبية التهامية التي تلعب فيها هذه الشخصية دور البطولة وهي شخصية تختلف في ملامحها عن الشخصية السابقة، فقد اشتهر (علي زنية) بالذكاء الحاد والمكر والدهاء فهو يستطيع الإيقاع بالآخرين بسهولة كما انه يمتلك القدرة على حل المشاكل والخروج من المأزق بطريقة تثير الاعجاب والدهشة بخلاف شخصية سالمين التي لا تثير سواء الضحك والسخرية.وإذا كانت شخصية (سالمين) تعكس موقف شعبياً له ظروفه وخلفيته التاريخية والاجتماعية فاننا لم نجد حتى الان لشخصية (علي زنية) أي اصل تاريخي او وجود واقعي في تاريخ المجتمع التهامي الحديث والوسيط.ولما كانت هذه الشخصية تشبهه في كثير من سلوكها وملامحها الذهنية والنفسية أبطال المقامات وخاصة شخصية (ابو زيد السروجي) بطل مقامات الحريري فاننا نرجح ان تكون شخصية على زنية نموذجاً تهامياً لبعض الشخصيات النمطية الشائعة في التراث الشعبي مثل علي الزيبق واحمد الدنف وغيرهما من الشطار والعيارين الذين تختزل الذاكرة الشعبية العربية الكثير من حكاياتهم المعجونة بالكثير من الإعجاب ببطولاتهم ومواقفهم الشعبية الرائعة.ولربما كان التشابه في الاسم الاول علي اضافة الى التقارب في دلالة الصفة التي تلي الاسم (زنية تعني فيما تعنيه في اللهجة التهامية القدرة على التملص والخروج من المأزق فهي بذلك تقترب من دلالة الزئبق) يجعلنا نميل نحو القول بان علي زنية نموذج محلي تهامي لشخصية علي الزئبق ، وان كان هذا القول يبقى افتراضاً ويحتاج الى مزيد من البحث فالنصوص القليلة التي بحوزة الباحث حتى الان لا تستطيع دعم هذا الافتراض أو ان ترقى به الى مستوى المسلمات.عجوز الكزكوزواذا كان علي زنية نموذجاً ذكورياً للمكر والدهاء فان (عجوز الكزكوز) هي النموذج الانثوي للدهاء وسعة الحيلة في الحكايات الشعبية التهامية وهي شخصية رئيسة تستقطب هي الأخرى مجموعة من الحكايات الشعبية التي تصور مكرها ودهاءها وقدرتها على الايقاع بالآخرين ومواجهة المشاكل والمصاعب.ولا تذكر الحكايات أي اسم لها أو لعائلتها بل تكتفي بوصفها بعجوز الكزكوز وان كنا لا نعرف دلالة الشق الثاني من الصفة (الكزكوز) حتى الآن.ولانها عجوز كما تصفها الحكايات دون تحديد دقيق لعمرها ، فهي الى جانب ذكائها الفطري تمتلك من التجارب والخبرات الحياتية القدر الكثير ، الامر الذي يجعلها قادرة على حل المشاكل والخروج من المأزق التي توجهها او توجه من حولها خاصة بنات جنسها ، فهي لا تبخل بخبراتها ونصائحها على بنتها والأخريات ، فهي كثيراً ما تكون ملجأ للبنات صغيرات السن اللاتي يطلبن مساعدتها للخروج من مأزق عاطفية أو زوجية او اجتماعية كما تصور ذلك حكاياتها المختلفة.وعجوز الكزكوز تشبه كثيراً في ملامحها علي زنية لذلك فربما تكون هي الاخرى نموذجاً تهامياً أنثوياً لبعض الشطار والعيارين كـ (دليلة المحتالة) مثلاً لكن هذا القول ايضاً يبقى افتراضاً لعل مزيداً من الوقت والجهد والعثور على مزيد من نصوص حكاياتها يدعم هذا الافتراض أو ينفيه.اخيراً هذه وقفة قصيرة حاولت مقاربة ملامح ابطال الحكاية الشعبية التهامية بالقدر الذي سمحت به ظروف الباحث وما توافر لديه من نصوص ، ولا شك ان الموضوع أغنى واعمق من ان تسبر غوره تناولة متعجلة كهذه.وحسب هذه الورقة ان تكون هي الوقفة الأولى على عتبة الموروث السردي الشعبي التهامي لعلها بذلك تشق طريق الاهتمام بهذا الموروث الإنساني الهام الذي بات يتلاشى ويندثر أمام أعيننا دون ان نحرك من أجله ساكناً ، لعل الله يقيض له رجالاً ينفضون عنه غبار الاهمال والنسيان ويخرجون للناس كنوزه ولآلئه فهو على كل شيء قدير وهو ولي الهداية والتوفيق.[c1]الهوامش :[/c]- أشكال التعبير في الأدب الشعبي ـ نبيلة إبراهيم ـ ص 145- ينظر بحث ماكس لوتي عن أوجه الاختلاف بين الشكلية في كتاب (الحكاية الخرافية) ص 140 وما بعدها.- أشكال التعبير ص 145
|
ثقافة
ملامح البطل في الحكاية الشعبية التهامية
أخبار متعلقة