الشاعر العراقي باسم فرات يدجن الصورة الشعرية
كتب/ جورج جحا مجموعة باسم فرات الشاعر العراقي الذي شردته الحروب التي تحمل اسم “إلى لغة الضوء” يصح فيها القول إنها جمعت المجد من طرفين: الشعر والنقد.ولعل من الضروري قبل الحديث عن القصائد الحديث عن المقدمة بل الدراسة النقدية القيمة التي تناولت المجموعة وانطلقت منها إلى موضوع قصيدة النثر عامة في عمق ودراية.وقد كتب تلك المقدمة الناقد الدكتور صالح هويدي. ودراسة الدكتور هويدي تشكل مقدمة جيدة للدخول إلى عالم قصائد باسم فرات وتصل بالقارئ إلى موضوع قصيدة النثر وما يمكن أن يسمى مشكلة أو مشكلات تواجهها أو لا بد من أن يواجهها شعراء هذا النمط الشعري الحديث.إنها تدخلنا إلى عالم القصيدة الحديثة من خلال قصائد باسم فرات أو العكس. أما المشكلة أو المشكلات فهي ليست مشكلات باسم فرات بل مشكلات قصيدة النثر الحديثة بعد مسيرتها الطويلة الناجحة دون شك ووصولها إلى مأزق قد لا تخرجها منه إلا مواهب شعرية جديدة تخطط لحال جديد من الشعر الحديث.جاءت المجموعة في 126 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن دار (الحضارة للنشر) في القاهرة.ويبدو انه لابد من البدء بالمقدمة ذات المستوى قبل الوصول إلى عالم القصائد ذات المستوى. يقول صالح هويدي مستهلاً كلامه “الكتابة عن قصيدة النثر في مرحلتها الراهنة أمر لا يخلو من صعوبة. وتزداد هذه الصعوبة درجة مع نصوص فرسانها الجدد من الشباب حتى لتبدو هذه الكتابة أمراً عصياً إن لم يكن إشكالياً محفوفاً بالمخاطر والمحاذير.“فلم تعد قصيدة النثر كما كانت على أيدي روادها نمطا معبرا عن مرحلة ثورية يتفصد فيها هذا النمط كشوفاً واجتهاداً ومغايرة وإدهاشاً”.أضاف “وفي ظني إن قصيدة النثر قد انتهت في مرحلتها الحالية إلى فك ارتباطها بأي نمذجة أو تنميط لبنيتها وشكلها وأساليب تعبيرها وإنها بسبب من هذا بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى ثقافة شعرية وتجربة عريضة وخبرات إبداعية وحياتية أكثر مما يحتاجه أي لون شعري آخر سابق عليها بعد أن بدت القصيدة الراهنة مشرعة على آفاق غير محدودة ونافرة عن أي محاولة لاستدراجها نحو ثابت أو نظام معلوم...”.“فضلاً عن أن حاجة قصيدة النثر اليوم إلى الثقافة والخبرة والموهبة الحقيقية التي تسندها أمر قد لا يتوافر على الدوام أو بالقدر نفسه الذي تحقق مع رواد هذا النمط الشعري ومجترحيه الأوائل”. “وفي ظني أن هذا هو التحدي الأكبر الذي يشهده هذا النمط العصيّ الذي لا يفتح أبوابه إلا للمبدع الحقيقي”.“ولعل هذا هو ما يقف وراء ما يطفو على سطح المشهد الشعري الحداثي اليوم من هجنة إبداعية واختلاط في المسارات وتشابه في الرؤى واللغة والتجارب التي تعبر عنها النماذج الشعرية”.وفي هذا المجال خلص هويدي إلى فكرة تذكّر بما يود البعض أن يختصر به مايسمونه مشكلة “الوجوديين” التي تتمثل في أن الإنسان غدا حرا وهنا مشكلته الكبرى لأنه بعد هذه الحرية غدا مسئولاً عن أي موقف يتخذه ولم تعد التقاليد الإيمانية أو الاجتماعية تملي عليه مواقفه وتشير الى الطريق التي عليه ان يسلكها.لقد غدا الشاعر الحديث حرا تماما وهذا يمثل مشكلة كبيرة فعليه أن يخطط وحيدا لماهو آت وان يتحمل المسؤولية عنه.وقال هويدي “لقد مضى العهد الذي كان الشعر فيه بحاجة إلى تحطيم الأوثان والتابوات التي تحكمت بخيارات الشعراء وأذواقهم وما يصبون إليه من رؤى إبداعية بعد أن لم يعد أمام القصيدة وشاعرها ما يمكن أن يحد من حريته ورغبته في الاجتراح.“من هنا فان الاكتفاء بتحطيم الأعراف والمواضعات الفنية السابقة لم يعد مسوغا ما لم نسارع إلى تقديم البديل الفني المقنع... إذ بدون تحقيق هذا المطلب سنكون كمن يضع كل ما حققه النمط الشعري الحداثي في حقل الفعل الاعتباطي والمحاولات النزقة”.وانتقل الناقد إلى الكلام عن شعر باسم فرات بالتحديد فقال: إن في نتاج الشاعر ما يميزه عن شعر الشعراء المعاصرين له “فمن بين ما يميز الشاعر ولعه الزائد وعنايته الفائقة بالصورة حتى ليبدو شعره برمته شعر صورة في المقام الأول. لكن ثمة ما يسم إنتاج الشاعر لصوره واقصد به هيمنة الملمح التجريدي على بناء الصورة...”.ويستشهد هويدي هنا بقصيدة لباسم فرات عنوانها “سليل” وهي كما تبدو للقارئ مزيج تصويري من التجريد والغرابة. وعلى ما يتميز به شعر باسم فرات فقد يجد القارئ في هذا الشعر من بعض النواحي على الاقل امتدادا وتحديثا لما يمكن ان يوصف بالمدرسة “الماغوطية”. وهي يمكن ان توصف بالماغوطية الجديدة على غرار ما وصفت به فلسفة افلوطين بتعبير يحملنا الى افلاطون اذ اطلق عليها اسم “الافلاطونية الجديدة”.يقول باسم فرات في هذه القصيدة “عندما رأيت رأسي/ بلحية وشعر منسدل/ مرفوعا على رمح/ حلقت لحيتي/ وقصصت شعري/ تعطّرت/ ورحت اغازل نسوة المدينة/ هل اوهم نفسي/ انني لست الذي في الصورة/ محمولا رأسه/ على رمح؟!”ونعود إلى هويدي حيث يقول “والحق إن اهتمام الشاعر بإنتاج الصورة أمر لازم ومطلوب إن لم يزد عن حده فيتحول إلى ضرب من الصناعة والتعمّل الذهني. وقد لا نخطئ إذا قلنا إن من الصعب على متلقي نصوص الشاعر التفاعل مع الصورة التي يقدمها إليه النص... فلا يبدو أن الشاعر يكترث كثيرا بالعلاقات المنطقية التي تتحكم في بناء الصورة لديه بل هو يسعى إلى خلخلتها والاستعاضة عنها ببناء صوري لا يستند إلا إلى البطانة النفسية ومعطيات عالم اللاوعي والمخيلة المتأبية على التدجين...”.في قصيدة “عناق لا يقطعه سوى القصف” نقرأ للشاعر ما يقدم لنا صورة عن الحال التي عاشها في أيام بل سنوات العراقيين الدامية.“مأخوذاً بما ستطلقه يداي/ من محبة وذكريات جففها الحصار/ أيامي تتناسل سوادا/ هاأنذا/ أطلق المطر والخضرة من خريفي/ بينما الحروب تتفاقم في/ تبتل ذاكرتي بالمنافي/ بين الرصيف وقلبي/ عناق طويل/ لا يقطعه سوى القصف/ الأزقة والجوع والنظرات المتخمة بالحسرات/ إلى النسوة اللائي حملن ثمار الغواية في سراويلهن/ فضاقت مثل بلادي/ حماقاتي المتكررة...”.في قصيدة “رجل الدم” نوع من “النشاز” إذ تختلف عن معظم قصائد المجموعة فتتحول عن أجواء التجريد والغرابة إلى شبه تقريرية ذهنية وهذا شأن ليس ذا حضور قوي في مجموعة باسم فرات.يقول “بسلاسل ذل/ وخطى مهانة/ يمشي إلى مجده/ الذي بناه من نشيج الأمهات ودموع اليتامى....”.وفي “رحيل” نجد انه حيث يتحدث عن المفجع الذي غدا خبز العراقيين اليومي فهو يرفع اليومي واليوميات وان وسط شيء من الغموض الناتج عن بعض الصور والتعابير إلى مستوى عال من التصوير والإيحاء وسط جلال الحزن الساحق.يقول “الأصدقاء يرحلون/ تتبعهم أحلامهم/ تضيء لهم دروبهم/ ألفتهم موحشة/ طرقاتهم ذابلة/ يتساقط بأسهم دون جدوى/ أمانيهم تغافلهم وتنتحر../ الأصدقاء يرسمون الربيع علامة لهم/ وما يرجعون/ إلا ليجدوا الخريف يمضغ خارطة البلاد.../ الأصدقاء يرحلون/ البحر يبتلع أقمارهم/ المطارات تؤرشفهم في سلة النسيان/ الحدود إشارات تعجب في حيواتهم/ وذكرياتهم لما تزل في باحة الدار...”.