قراءة في صفحة من صفحات تاريخ اليمن الإسلامي
محمد زكريا« الحرة الملكة السيدة الرضية الطاهرة الزكية ، وحيدة الزمن ، سيدة ملوك اليمن ، عمدة الإسلام ، ذخيرة الدين ، عصمة المؤمنين ، كهف المستجيبين ، ولية أمير المؤمنين ، كافلة أوليائه الميامين « . تلك الألقاب الفخمة والضخمة لا تمنح إلاّ للملوك العظام الذين بلغوا شأوًا كبيرًا في الوطن العربي والعالم الإسلامي ، أرسلها الخليفة الفاطمي المستنصر المتوفى سنة ( 487 هـ / 1094م ) الذي حكم مصر الفاطمية ستين عامًا إلى الملكة الصليحية الحرة سيدة بنت أحمد المتوفاة ( 532 هـ / 1138م ) التي أمتد حكمها في اليمن خمسة وخمسين عامًا . والحقيقة أنّ سيدة بنت أحمد الصليحي ظهرت على المسرح السياسي اليمني في أوضاع سياسية غاية في التعقيد والصعوبات فقد تجرأ الطامحون والطامعون إلى السلطة للانقضاض على الدولة الصليحية بعد أنّ أصاب زوجها المكرم أحمد بن علي بن محمد الفالج ( الشلل الرعاش ) المتوفى سنة ( 477هـ / 10855م ) والذي حكم اليمن ثمانية عشر عامًا بعد أنّ قضى معظم حكمه في حروب ومنازعات ضد خصومه السياسيين الذين اغتالوا والده مؤسس أركان الدولة الصليحية سنة ( 459هـ / 1068م ) الذي أمتد حكمه في اليمن عشرين عامًا .[c1]على المسرح السياسي[/c] وعندما شعر الملك المكرم أحمد بأنّ المرض قد تمكن منه وأنه لن يستطيع أنّ يدير شئون الحكم ، فوض الأمر لزوجته سيدة بنت أحمد في تسيير أمور الحكم . والحقيقة لقد أثبتت المحن ، والخطوب السياسية التي واجهتها الملكة الصليحية الحرة سيدة بنت أحمد ، كفاءتها و صلابة عودها و قدرتها الفائقة ، وحنكتها في التغلب على تلك الصعوبات الواحدة تلو الأخرى بفضل حكمتها العميقة ، ونظرتها الثاقبة للأحداث ، ورباطة جأشها ، وواقعيتها في معالجة الأمور ، واختيارها الجيد لرجالات دولتها. وتميزت سيدة بنت أحمد بأنها ، كانت لها شخصيتها المستقلة مهما كانت قوة الضغوط السياسية التي تحيط بها من كل مكان ، إذ تعرضت للضغوط السياسية القوية من قِبل مصر الفاطمية أو بعبارة أخرى من بعض الخلفاء الفاطميين الذين ظهروا على مسرح مصر الفاطمية بعد وفاة الخليفة المستنصر . فقد حاول البعض منهم أنّ يفرض عليها سياسته ولكنها لم تخضع له ، بل أنّ البعض منهم عندما وجد في سيدة بنت أحمد القوة ، والبأس ، والشموخ والاعتزاز بالنفس فضلاً عن أنّ اليمن كانت تمثل لهم قاعدة صلبة وعريضة تنطلق منها دعوتهم المذهبية إلى الهند وتحديدًا في الساحل الغربي منه ، وكذلك عُمان ، والبحرين ، والإحساء ولذلك نزل عند موقفها وحاول بشتى الوسائل التودد لها والتقرب إليها لكسبها إلى صفهم أو بعبارة أخرى كسب اليمن إلى صف مصر الفاطمية .[c1]الملك المكرم أحمد[/c]والحقيقة أنّ تولية سيدة بنت أحمد حكم إدارة شئون اليمن لم يأتِ من فراغ ، فقد كان الملك أحمد المكرم يدرك تمام الإدراك حكمة زوجته على أبحار سفينة البلاد إلى شاطئ الأمان بعد أنّ تمكن منه المرض ـــ كما قلنا سابقاً ـــ ولم يكن المكرم شخصية ضعيفة أو ألعوبة في يد زوجته لتفرض عليه أنّ يفوضها زمام الأمور في البلاد . فقد ذكر بامخرمة صفات المكرم ، قائلاً : « . . . كان ملكًا ضخمًا شجاعًا شهمًا ، جوادًا ، هُمامًا ، فارسًا مِقدامًا « . فتلك الصفات للمكرم تدل بوضوح بأنه صاحب شخصية قوية أو حاكمًا لا يستطيع أحد التأثير عليه . فعندما فوض شئون البلاد لزوجته سيدة بنت أحمد ، كان على يقين تام بأنها ستكون قادرة على الإمساك بمقاليد الأمور في البلاد . والحقيقة أنّ الثقة التي أولاها زوجها أحمد المكرم في حكم البلاد ، كانت أيضًا محل تقدير واحترام كبيرين من الخليفة الفاطمي المستنصر . فبعد أنّ توفى زوجها المكرم سنة 477هـ ، فقد فوض لها الخليفة الفاطمي التصرف في أمور الدولة والدعوة في اليمن ، والهند ، وعُمان ، علاوة على ذلك منحها الألقاب الكبيرة التي تدل على مكانتها الرفيعة التي حظيت بها عند الخليفة المستنصر الفاطمي ، والدعاة الإسماعيلية الكبار أو بعبارة أخرى عند مصر الفاطمية .[c1]« يدورون في فلكهم «[/c]والحقيقة أنّ السيدة الحرة الملكة الصليحية ، كانت مخلصة للدولة الفاطمية بوجه عام ، والخليفة الفاطمي المستنصر بوجه خاص ، وكانت الأوامر الذي يصدرها الخليفة تنفذ في الحال دون مناقشة أو اعتراض , على غرار مؤسس الدولة الصليحية علي بن محمد الصليحي وأبنه الملك أحمد المكرم. فقد كانت الدولة الصليحية في اليمن تابعة لمصر الفاطمية تدور في فلكها أو امتدادًا لنفوذها السياسي والروحي . وهذا ما أكده المؤرخ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع في سياق حديثه عن مراسيم المُلك وتقاليده في الدولة الصليحية التي قلدت مصر الفاطمية في هذا الأمر ، فيقول : « . . . أنها ( أي الدولة الصليحية ) كانت من أقدم دول اليمن أخذًا بمراسيم المُلك وتقاليده ، وعاداته وأنظمته ، ذلك لأن دعاتها ترسّموا عادات وتقاليد الحكام الفاطميين ( العُبيدِيين ) ـــ ترج تلك التسمية إلى عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية في المغرب ــــ بحذافيرها بسبب التبعية والولاء لهم في المذهب والعقيدة ، فمنهم كانوا يستمدون سِجلات ( مراسيم ) التعيين لهم ، ومنهم كانوا يأخذون الألقاب الرسمية الممنوحة لهم ، والتي يتعين على الناس إذا خاطبوهم أن يخاطبوهم بها « . ويمضي مؤرخنا إسماعيل الأكوع ، قائلاً : « فلا جرم إذا صاروا تبعًا لهم يدورون في فلكهم ، ويلتزمون بتعاليمهم ، ويأتمرون بأمرهم ، وينتهون بنهيهم ، ويقلدونهم في شؤونهم كلّها ، وما ذا إلاّ امتدادُ ُ لنفوذهم في اليمن « . [c1]اليمن والخلفاء الفاطميون[/c]ويذكر الدكتور سيد مصطفى سالم مسألة هامة عن النفوذ الفاطمي في اليمن بأنه لم يكن نفوذاً سياسيًا بقدر ما كان نفوذًا روحياً ، فيقول : « ويلاحظ أنّ النفوذ الفاطمي في اليمن كان نفوذاً روحيًا أكثر منه سياسيًا ، أمّا النفوذ الأيوبي هناك ، فقد كان نفوذاً سياسيًا مباشرًا ، إذ الحق اليمن حينئذ بمصر اعتمادًا على قوة الأيوبيين العسكرية « . والحقيقة أنّ مصر الفاطمية ، كانت في تلك الفترة التاريخية وتحديدًا في أواخر عهد حكم الخليفة المستنصر طويت صفحة الخلفاء الفاطميين الأقوياء العظام . وظهر على الساحة السياسية خلفاء فاطميين ضعفاء مسلوبي الإرادة . فقد باتوا ألعوبة بيد الوزراء الكبار في الدولة . وكان وضع المستنصر وضعًا ضعيفاً مهزوزاً بعد أنّ تولى الوزارة في مصر الفاطمية والي عكا الأمير بدر الجمالي المتوفى ( 487هـ / 1086م ) الذي تحكم في شئون الخلافة في صغيرها وكبيرها , وانعزل الأول عن شئون الحكم وفي أثناء تلك الفترة التاريخية قامت الدولة الصليحية في اليمنية التي كانت تسير على نهج المذهب الفاطمي ( الإسماعيلي ) ، وكان يظن رجالات الدولة الصليحية وعلى رأسهم مؤسس الدولة الصليحية الداعي علي بن محمد الصليحي بأنّ الخليفة الفاطمي المستنصر خليفة قوي له المكانة والهيبة في دولته من ناحية وله اليد الطولي في الوطن العربي والعالم الإسلامي من ناحية أخرى ، وعندما طلب الصليحي من المستنصر أنّ يؤذن له بالمثول أمامه ، ويتشرف بزيارته ، رد عليه الخليفة الفاطمي بأنّ الوقت غير مناسب ، والحقيقة كان رده ذلك يعود إلى خشيته أنّ يرى ويلمس وضعه المهزوز والضعيف والمتآكل أمام وزيره أمير الجيوش بدر الجمالي الذي بسط نفوذه على كل مكان من مصر الفاطمية وبات الخليفة المستنصر لا حول له ولا طول . وكان من نتائج ظهور الأمير بدر الجمالي في الخلافة الفاطمية هو انتقال السلطان والصولجان والنفوذ من الخلفاء الفاطميين إلى أيدي الوزراء مما أدى إلى اندلاع الصراع السياسي بين اليمن ومصر الفاطمية .[c1]اليمن والبحر الأحمر[/c]والحقيقة أنه عندما انتقلت اليمن من نفوذ الخلافة العباسية السُنية في بغداد إلى الخلافة الفاطمية في القاهرة في عصر الدولة الصليحية في اليمن ، كان لها نتائج هامة على صعيد حوض البحر الأحمر حيث صار ذلك الشريط المائي الحيوي والخطير تحت سيطرة مصر الفاطمية ، فكانت الأخيرة تسيطر على الطرف الشمالي منه والدولة الصليحية في اليمن تسيطر على الطرف الجنوبي منه وبذلك صار البحر الأحمر خاضعًا للنفوذ الإسلامي وبات هناك وحدة سياسية لحوض البحر الأحمر تشرف عليه في طرفه الشمالي مصر الفاطمية ، وتتحكم فيه في طرفه الجنوبي الدولة الصليحية في اليمن ـــ كما قلنا سابقا ـــ . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً « أمّا الأهمية الثالثة للدولة الصليحية في تاريخ اليمن الإسلامي ، فهي تتركز في أنّ هذه الدولة ، قد نقلت ولاء اليمن لأول مرة من بغداد العباسية إلى القاهرة الفاطمية ، فوضع الصليحيون بذلك الأسس الأولى لوحدة حوض البحر الأحمر السياسية ، وخاصة بعد أنّ أصبح هذا البحر بحيرة إسلامية بعد انتشار الإسلام على شاطئيه « . [c1]اليمن بين مصر و بغداد[/c] والحقيقة أنّ الخلافة العباسية عندما خرجت اليمن من نفوذها السياسي وانتقل ولاؤها إلى مصر الفاطمية ( الشيعية ) لم تحرك ساكنًا ولم تمد يد العون للإمارات الإسلامية السنية التابعة أو الموالية لها مثل إمارة نجاح في زبيد مما مكن علي بن محمد الصليحي أنّ يخضعها لفترة من الوقت للسيادة الفاطمية . في الوقت الذي سارعت الدولة الفاطمية في القاهرة بمد يد العون ومساعدة الدولة الصليحية الناشئة والتي تمثل امتدادًا لنفوذها في اليمن . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور محمد صالح بلعفير : « . . . سانده ( أي الصليحي ) الفاطميون في مصر بالدعم المادي والمعنوي ، وتجلى ذلك في الدعم الذي قدمه الإمام المستنصر . . . بعد نجاحه في إظهار الدعوة في اليمن ، وخوضه الحروب ضد القوى السياسية والمذهبية التي كانت تتقاسم حكم اليمن . كما تمثل ذلك الدعم في إرسال الأموال من الدنانير التي ضربت في القاهرة على النمط الفاطمي والتي تحمل اسم مدينة زبيد ، وذلك على عكس العباسيين الذين لم يحاولوا مد يد العون إلى أتباعهم النجاحيين أصحاب زبيد ، وأنّ يُخلصوا اليمن من الدعوة الفاطمية « .[c1]صاحبة قرار سياسي[/c]وعلى الرغم ما ذكره مؤرخنا القاضي الأكوع حول التبعية والولاء الكامل للدولة الفاطمية في مصر . فقد كانت السيدة بنت أحمد الصليحي ، صاحبة شخصية سياسية مستقلة تنأى في أحايين كثيرة عن أوامر الفاطميين في العديد من القضايا الهامة المتمثلة بأنّ تكون الدعوة المذهبية أو الدعوة الدينية تحت أشراف الفاطميين مباشرة وليست تحت أشراف اليمن أو تخضع لأشرافها ولكنها رفضت رفضًا قاطعًا الانصياع إلى أوامر مصر الفاطمية حتى ولو كان صادر من الخليفة المستنصر نفسه التي توقره ، وتبجله ، وتلتزم بأوامره والذي بيده مقاليد الإمامة والخلافة لكون أنّ ذلك القرار الخطير سيسحب البساط الروحي والسياسي من تحت قدميها أو بعبارة أخرى أنّ اليمن لن تكون لها أية نفوذ سياسي وروحي في المنطقة التي حولها . وعلى أية حال ، هذا بأنّ سيدة بنت أحمد كانت صاحبة قرار بصرف النظر عن العلاقة القوية والمتينة التي تربطها بمصر الفاطمية في الكثير من المسائل السياسية والروحية الهامة فرفضت أنّ يملى عليها الأوامر الفاطمية التي تتدخل في شئونها وشئون اليمن . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور محمد صالح بلعفير : « . . . فإنا نعتقد أنّ الصليحيين ، وبخاصة سيدة بنت أحمد التي كان لها تأثير قوي آنذاك ، لم يمكنوا القاضي لملك بن مالك من القيام منفردًا بأمر الدعوة وإنما استفادوا منه في ضبط حركة دعوة اليمن وفي الأشراف عليها إلى جانبهم حتى لا تخرج قيادة الدعوة من أيديهم « . ومن القضايا الهامة التي واجهتها السيدة الحرة الملكة الصليحية وأثارت عليها نقمة مصر الفاطمية أو بعض الخلفاء وهي قضية التوريث في الحكم . فبعد وفاة المستنصر ، تولى سدة الخلافة الابن الأصغر للمستنصر والذي لقب بالمستعلي بدلاً من أخيه الأكبر نزار ، وكان ذلك اختراق خطير في شئون توريث الإمامة والخلافة في العقيدة الفاطمية ( الإسماعيلية ) ووقفت سيدة بنت أحمد موقفاً صارمًا من الخليفة المستعلي التي رفضت الاعتراف بشرعيته كأمام وخليفة وظلت على وفائها العميق لنزار الابن الأكبر للخليفة المستنصر . وكانت الدعوة في اليمن تدعو له . ومثلما حدث من موقفها مع الخليفة الفاطمي المستعلي حدث مع الخليفة الفاطمي الحافظ ـــ أيضا ـــ الذي انقض على عرش الخلافة وأخذها عنوة من الطيب ابن الخليفة الآمر بن المستعلي . [c1]السيدة الحرة وولاية العهد[/c]تحدثنا قبل قليل عن موقف السيدة بنت أحمد الصليحي من قضية وراثة الإمامة والخلافة في المذهب الإسماعيلي أو في بعبارة أخرى في نظام الحكم في الخلافة الفاطمية ، وقد كانت السيدة متمسكة بقوة بأهداف تلك الوصية الذي يوصي بها الخليفة الفاطمي لمن يتولى الإمامة والخلافة من بعد وفاته . والحقيقة لقد خاضت السيدة الحركة الملكة الصليحية معارك سياسية ضارية مع الوزراء الذين باتوا يتحكمون بمصير الخلفاء والخلافة الفاطمية . وقد اشتعلت تلك المعارك السياسية بُعيد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر ، عندما تولى كرسي الحكم المستعلي الابن الأصغر للمستنصر بدلاً من أخيه الأكبر نزار . وكانت تلك سابقة خطيرة في نظام الحكم الفاطمي لم يعهد بها من قبل ـــ كما قلنا سابقاً ـــ ولذلك نجد أنّ السيدة بنت أحمد تقف من تلك المسألة المتعلقة من ولاية العهد موقفاً صارمًا وقويًا ، ورفضت رفضًا قاطعًا أنّ يجلس على سرير الخلافة الفاطمية بعد وفاة المستنصر المستعلي بدلاً من نزار ( الأخ الأكبر ) . والحقيقة أنّ موقف السيدة بنت أحمد الصليحي من مسألة تولية العرش والإمامة في العقيدة الفاطمية ، كان واضحًا وصريحًا وجريئاً ولم يتزعزع حتى وفاها الأجل . ونستطيع القول بأنه حدث انقسام خطير بين اليمن ومصر الفاطمية ، فاليمن ، كانت تؤيد الابن الأكبر نزار للخليفة المستنصر ، وأنّ الخليفة المستعلي لم يكن له نفوذ يذكر فيها ودليل ذلك هو غياب اسم المستعلي على الدنانير الصليحية ، وتأخير ضرب اسم الخليفة الآمر بن المستعلي عليها ـــ على حسب قول الدكتور محمد بلعفير ـــ .[c1]مع الخليفة الآمر[/c]حقيقة أنّ سيدة بنت أحمد , وقفت موقفاً جادًا إزاء مسألة ولاية العهد الذي اخترقت بعد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر ـــ الذي كان يولي الملكة الصليحية عناية خاصة ــــ ورفضت بشدة أنّ يتولى الخلافة المستعلي ( الابن الأصغر ) بدلاً من نزار ( الابن الأكبر) الإمامة والخلافة ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . ولكن الأوضاع السياسية في بلادها فرضت على السيدة بنت أحمد إعادة جسور العلاقة الصليحية الفاطمية إلى سابق عهدها بسبب اهتزاز أركان دولتها التي أخذت تتناقص أطرافها وتتآكل نفوذها ، فاتصلت بالخليفة الفاطمي الآمر بن المستعلي المتوفى ( 524 هـ / 1130م ) لمساعدتها على إرسال مستشار يساعدها على حل الكثير من أمور الدولة والتصدي للطامحين إلى سلطانها ،وكان ذلك كذلك فأرسل لها ابن نجب الدولة الذي استطاع أنّ يوطد دعائم ملكها ، ويقضي على الكثير من مناوئيها . وتذكر الروايات التاريخية بأنّ هناك سبب آخر حول أعادة العلاقات الصليحية الفاطمية في إبان عهد الخليفة الآمر وهو من أجل الحفاظ على وحدة الصف بين رؤساء الدعوة في مصر الفاطمية ، والدعاة في اليمن أو بعبارة أخرى وحدة الصف الروحي بين البلدين . وسارت الأمور بين السيدة بنت أحمد والخليفة الآمر على خير ما يرام ولكن سرعان ما خيم على أفق العلاقات الصليحية الفاطمية غيوم الانقسام الكثيف بسبب اغتيال الخليفة الفاطمي الآمر على يد خصومه السياسيين. ولم يمض وقت قصير حتى قفز على كرسي الخلافة الفاطمية الحافظ , وكان قبلها قد أوصى الخليفة الآمر أنّ يتولى ابنه الطيب الخلافة من بعده ، وكان ذلك انقسامًا جديدًا وخطيرًا أحدث شرخاً كبيرًا وواسعًا في بنيان الخلافة الفاطمية التي أخذ يتداعى شيئاً فشيئاً حتى سقوطها في عهد الخليفة العاضد آخر الخلفاء الفاطميين في مصر على يد الحاكم القوي الناصر صلاح الدين الأيوبي الذي أعاد مصر إلى أحضان الخلافة العباسية السُنية مرة أخرى أكبر وأخطر الولايات على خريطة الوطن العربي والعالم الإسلامي . [c1]مع الخليفة الحافظ[/c]وفي واقع الأمر ، لقد ظلت مسألة ولاية العهد في إبان حكم سيدة بنت أحمد الصليحي الشغل الشاغل لها حيث فرضت المتغيرات السياسية التي خرجت من مصر الفاطمية عليها تلك المسألة الخطيرة . فعندما اغتيل الخليفة الآمر بن المستعلي سنة ( 524 هـ / 1130م ) . تقلد الخلافة الحافظ لدين الله ابن عم الآمر ، بدلاً من ابنه الطيب . وفي هذا الصدد ، يقول محمد بلعفير : « على أي حال ظلت العلاقات المذهبية بين الطرفين الصليحي والفاطمي قوية إلى حين اغتيال الخليفة الآمر على يد بعض النزارية . . . وكان لهذا الحدث آثار بعيدة المدى على تاريخ مصر الفاطمية ، ودعوتها في اليمن بوجه خاص « . وكان من نتائج ذلك هو الانقسام الحاد الذي زلزل كيان الخلافة الفاطمية من ناحية وعلى كيان الدولة الصليحية في اليمن نفسها من ناحية ثانية الذي كان يحيط بها محيط من السُنة حولها . وأحدث ذلك قطيعة سياسية وروحية بين اليمن برئاسة سيدة بنت أحمد ومصر الفاطمية بزعامة الحافظ « فانقسمت الدعوة الفاطمية مرة أخرى إلى فرقتين : إسماعيلية حافظية يرون إمامة الحافظ ومركزها مصر ، وإسماعيلية طيبيه تعتقد في إمامة الطيب ، وتطعن في إمامة الحافظ مستقرها اليمن ، وترى أنّ الخليفة الآمر ، قد نص على ابن له في حياته وهو أبو القاسم الطيب « .[c1]اليمن مركز ثقل روحي[/c]الحقيقة أنّ اليمن الصليحية ، كانت دائمًا وأبدًا محافظة على ولائها الكامل والشامل لمصر الفاطمية ، وتدور في فلكها ــ كما قلنا سابقاً ـــ . وكانت مصر الفاطمية تدرك تمام الإدراك أنّ اليمن تمثل مركز ثقل روحي لنشر الدعوة الفاطمية ( الإسماعيلية ) في الهند ، والسند ، وعُمان ، الإحساء ، والبحرين. ولذلك رأى داعي الدعاة المؤيد في الدين هبة الله بن موسى بن موسى الشيرازي ( باب أبواب الإمام المستنصر بالله الفاطمي ) أنّ الظروف السياسية في مصر الفاطمية في طريقها إلى التدهور والسقوط في قيعان الفوضى والاضطراب بسبب تحكم الوزراء بالخلفاء الفاطميين ، وخصوصًا بعد أنّ تولى زمام الأمور الوزير وأمير الجيوش بدر الجمالي في عهد إبان حكم الخليفة الفاطمي المستنصر الذي وضع في قبضته كل السلطات التشريعية والتنفيذية ، ويكفي أنه تولى رئاسة أو إمامة الدعوة ، وتلك أيضًا سابقة جد خطيرة ، أنّ يتولى قائد عسكري إمامة الدعوة . فقد رأى المؤيد بغرض الحفاظ على التراث الأدبي الفاطمي أنه من الضرورة بمكان نقله إلى اليمن . وفي هذا الصدد ، يقول حُسين فيض الله الهمداني : « . . . ظهرت في مخيلة الداعي المؤيد ، أنّ الدولة ( يقصد الدولة الفاطمية ) على هذا الوضع مصيرها إلى الزوال . لذلك وجب تحويل آداب الدعوة إلى مكان يضمن حفظها ، ولم يكن هذا المكان إلاّ اليمن . وساعد على ذلك أنّ الدعوة الفاطمية الرسمية ، كانت قد استقرت في بلاد اليمن ، لأن دعوة اليمن هي الوحيدة التي ظلت موالية لدعوة الفاطميين الرسمية بعد أنّ فقد تلك الدعوة نفوذها لضعف أمرها في كل من شمال إفريقية ، ومصر ، وسورية ، والعراق ، وفارس « . [c1]مع الطيب بن الآمر[/c]ولقد أوضحنا كيف خاضت سيدة بنت أحمد معارك مذهبية ضارية مع الخلفاء الذين تعاقبوا على حكم الخلافة الفاطمية بعد رحيل المستنصر بالله عن مسرح مصر الفاطمية السياسي . مثلما حدث مع الخليفة المستعلي ( الأخ الأصغر ) الذي جلس على سرير المُلك بدلاً من أخيه نزار ( الأخ الأكبر بن الخليفة المستنصر ) ، ولكن نظرًا للرياح السياسية القوية والمضطربة التي هبت على الدولة الصليحية اضطرت إلى إعادة جسور العلاقة الصليحية والفاطمية إلى سابق عهدها ــ كما قلنا سابقاً ـــ . ولكن عادت الاضطرابات السياسية والقلاقل ، والفتن مرة أخرى تطل برأسها من داخل أروقة قصر الخلافة الفاطمية في القاهرة بعد اغتيال الخليفة الآمر بن المستعلي سنة ( 524 هـ ) على يد مناوئيه السياسيين من أنصار وأتباع النزارية . وبعد مصرع الآمر يستولي ابن عمه الأمير أبي الميمون بن عبد المجيد بن محمد على زمام الخلافة ويلقب بالخليفة الحافظ لدين الله . ومرة أخرى تشتعل الخصومة الحادة بين السيدة الحرة والخليفة الفاطمي الحافظ المغتصب للخلافة من الطيب بن الآمر ولا تعترف به إمامًا و خليفة حتى أخر أيام حكمها . وهذا ما أكده الدكتور محمد صالح بلعفير من خلال المسكوكات التي ضربت في أثناء عهد حكم السيدة بنت أحمد الصليحي والتي دلت بوضوح بعدم اعترافها بشرعية الحافظ الذي استولى على كرسي الخلافة دون وجه حق من الطيب بن الخليفة الآمر ، فيقول : « وفي اليمن لم تنظر السيدة بنت أحمد بعين الرضا إلى وصول الحافظ إلى الخلافة ، ورفضت أنّ تقيم الدعوة له ، وانعكس ذلك الرفض ليس فقط في مصادر إسماعيلية اليمن ، بل في بعض الآثار المادية للدولة الصليحية ( المسكوكات ) . فقد ظل اسم الخليفة الآمر ابن المستعلي يضرب على الدنانير الصليحية حتى سنة 530 هـ ( 1136م ) ـــ وهو أحدث تاريخ معروف حتى الوقت الحاضر ـــ في حين أنه توفي سنة 524 هـ / 1130م . وليس من شك في أنّ استمرار ضرب اسم الآمر حتى هذا التاريخ يعني عدم اعتراف السيدة بنت أحمد بشرعية إمامة وخلافة الحافظ ، فالسيدة كانت قد حددت موقفها منه بعد اعتلائه العرش ، ورأت فيه مغتصبًا للإمامة والخلافة اللتين كان ( كانا ) من المقرر أنّ يرثهما الطيب بن الآمر « . [c1]معارك سياسية ضارية[/c]والحقيقة أنّ المعارك المذهبية القاسية والصعبة التي خاضتها سيدة بنت أحمد مع مصر الفاطمية أو بعبارة أخرى مع بعض الخلفاء الفاطميين الذين تولوا مقاليد الحكم بعد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر المتمثلة بمبدأ التوريث أو ولاية العهد سواء في الإمامة أو الخلافة في نظام الحكم الفاطمي . كان في حقيقة الأمر هو صراع سياسي في الدرجة الأولى لكون أنّ هؤلاء الخلفاء الفاطميين كالخليفة المستعلي بن المستنصر ، والخليفة الآمر بن المستعلي ، والخليفة الحافظ أرادوا أنّ يفرضوا على الملكة الصليحية سيدة بنت أحمد اعترافهم بشرعية جلوسهم على كرسي الخلافة الفاطمية . ولكن سيدة بنت أحمد وجدت أنّ ذلك الأمر هو بمثابة إملاء سياسي على شخصيتها المستقلة ، وشخصية اليمن المستقلة التي كانت تعتز بها أيما اعتزاز. وقد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة أنّ المعركة أو المعارك التي دارت بين اليمن أو السيدة الحرة الملكة الصليحية ما هي إلا صراع فكري أو مذهبي بين الأخيرة والخلفاء الفاطميين الذين ذكرناهم قبل قليل ولكنه في حقيقة الأمر ينطوي على صراع سياسي في الدرجة الأولى بين اليمن ومصر الفاطمية وبعبارة أخرى ظاهره صراع مذهبي وباطنه في حقيقة الأمر صراع سياسي . وكيفما كان الأمر ، فقد كانت سيدة بنت أحمد متعمقة بالتراث الفاطمي ومتمسكة به التي تبحرت في فروع علومه حيث كانت « متبحرة في علم التنزيل والتأويل والحديث الثابت عن الأئمة والرسول عليهم السلام . . . وكان الدعاة يتعلمون منها من وراء الستر ، ويأخذون عنها ويرجعون إليها» ـــ كما سبق وأنّ ذكرنا ـــ . ونستطيع أنّ نتجرأ ونقول أنّ سيدة بنت أحمد ، كانت ( باب أبواب الإمام المستنصر بالله الفاطمي ) . وكان ذلك يعني أنها كانت تحتل مكانة عالية في تراث الفكر الفاطمي من ناحية ولها وزنها السياسي في ساحة الخلافة الفاطمية من ناحية أخرى , وشخصية مثل تلك تملك كل المقومات الروحية والسياسية أو بعبارة أخرى تجمع بين الزعامة الدينية والرئاسة الزمنية لا بد أنّ تكون شخصية قوية مستقلة ترفض الإذعان حتى من الخلفاء الفاطميين الذين كانوا يجمعون بين السلطة الروحية والزمنية أي بين الإمامة والخلافة إذا لم تكن مؤمنة بها إيماناً عميقًا . ولقد رأينا ذلك عندما كانت العلاقات بين اليمن ومصر الفاطمية في أوج قوتها في عهد حكم الخليفة المستنصر بالله الذي رفض أحد كبار الدعاة أو داعي الدعاة على الملك المكرم أحمد ، وكذلك على سيدة بنت أحمد ليشرف على شئون الدعوة الفاطمية ( الإسماعيلية ) في اليمن ولكنهما رفضا الإذعان لتلك الأوامر الصادر من الخليفة الفاطمي أو من مصر الفاطمية . [c1]بين جذب وشد[/c]والحقيقة أنّ العلاقات بين اليمن ومصر الفاطمية كانت بين جذب وشد ، ولم تكن صورة الوردية كما رسمها الكثير من مؤرخي الدولة الصليحية و الفاطمية عنها . فقد شابها الكثير من التوتر والفتور بل والقطيعة في أواخر عهد حكم سيدة بنت أحمد الصليحي التي رفضت الاعتراف بشرعية الحافظ للإمامة والخلافة الفاطمية بتاتاً اللتين اغتصبهما من الخليفة الشرعي وهو أبي القاسم الطيب بن الخليفة الفاطمي الآمر . ومن قبله ، خاضت معركة عنيفة مع المستعلي الذي سلب شرعية الإمامة والخلافة من أخيه الأكبر نزار بن الخليفة المستنصر . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور محمد صالح بلعفير : « ليس من شك في أنّ موضوع العلاقات المذهبية بين اليمن ومصر الفاطمية ، قد وصلت إلينا الكثير من معطياته سواء عن طريق المصادر التاريخية أو البحوث التي كتبها عدد من الباحثين المحدثين عربًا وأجانب على حدٍ سواء . ويفهم من معظم تلك المؤلفات أنّ العلاقات المذهبية بين اليمن ومصر الفاطمية ، كانت على خير ما يرام . بيد أنّ المصادر الأثرية ـــــ ونعني بها هنا مسكوكات ( نقود ) الصليحيين و الزريعيين ( الذين كانوا ولاة الدولة الصليحية في عدن ولحج وانفصلوا عنها في حكم سيدة بنت أحمد ) ــــ . قد كشفت في بعض فتراتها عن غير ذلك . وأنّ تلك العلاقات قد حدثت فيها تقلبات وتجاذبات بين الطرفين : الصليحي ـــ الفاطمي . . . « .[c1]الهوامش :[/c]اعتمدنا في موضوعنا كلية على بحث الأستاذ الدكتور محمد صالح بلعفير تحت عنوان ( العلاقات المذهبية بين اليمن ومصر الفاطمية في عصر الدولتين الصليحية والزريعية ) . مجلة اليمن ، العدد الخامس والعشرون ، جمادي أول 1428هـ / مايو 2007م .حسين بن فيض الله الهمداني ؛ الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن ، دار المختار للطباعة والنشر ـــ دمشق ـــ .القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ أعراف وتقاليد حكُام اليَمَن في العَصر الإسلامي ، الطبعة الأولى 1994م ، دار الغرب الإسلامي ـــ بيروت ـــ لبنان ـــ .عبد الله الطيب بامخرمة ؛ تاريخ ثغر عدن ، تحقيق : أوسكار فوفجرن ــ الجزء الأول ـــ الطبعة الثانية 1407هـ / 1986م ، شركة دار التنوير للطباعة والنشر ـــ بيروت ـــ لبنان ـــ .دكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العُثماني الأول لليمن 1538 ـــ 1535م . الطبعة الخامسة نوفمبر 1999م ، دار الأمين للطباعة والنشر والتوزيع ـــ القاهرة ـــ جمهورية مصر العربية.