مع الاحداث
شخصيا لا أرى أن في الأفق ما يشير إلى انحسار أو تقلص فكر التكفير في الساحة الفكرية في الثقافة الإسلامية على المدى القريب. وتعود هذه النظرة إلى عدد من الأسباب من أهمها أن الجذر الفكري للتكفير في التراث الإسلامي ممتد إلى مسافات بعيدة ويشكل أساسا مهما في تشكيل المذاهب الإسلامية منذ نشأتها الأولى. من يتصفح كتب العقائد الأساسية يجد فيها كماً هائلاً من التكفير المتبادل بين المذاهب المختلفة. كل مذهب يكفر الآخر بنفس الحجج تقريبا. الانحراف عن الدين القويم والسنة المطهرة كان دائما يمثل الحجج الأقوى التي يستند عليها التكفير. تحت هذا الغطاء من الحجج يكمن الصراع الأيديولوجي كفاعل رئيس ومحرaك أساسي لحرب التكفير المتبادلة. دراسات حديثة كشفت البعد الأيديولوجي خلف هذه الصراعات بين طوائف الفرق الإسلامية، السنة (الأشاعرة وأهل الحديث) والشيعة بتنوعاتهم والخوارج والمعتزلة. من أهم هذه الدراسات مشروع الدكتور محمد عابد الجابري ودراسات هشام جعيط وفهمي جدعان وغيرهم ممن قرأوا التراث قراءة جديدة تخلصت من هالة التقليد والتأريخ الكلاسيكي وحمى الصراع المذهبي. إلا أنه رغم هذه الدراسات إلا أن تراث التكفير لم يتم نقده وتعريته فضلا عن تجاوزه حتى الآن. السبب الآخر لتوقع استمرار التكفير في الثقافة الإسلامية يكمن في أن التكفير لا يزال هو السلاح الأكثر فاعلية في الصراعات الدائرة، أيا كانت هذه الصراعات. لم تحدث تطورات مؤثرة في مسألة استخدام الدين في سحق الطرف المقابل أيا كان نوع هذه الصراعات الحقيقي إلا أنه دائما يخاض تحت شعارات دينية. لا تزال الحجج الفاعلة في القديم تقوم بنفس الدور اليوم. الفكر الديني عموما لم يتم نقده بشكل مؤثر وفعّال وبالتالي فإن الأحداث لا بد أن تستمر في ذات الخط حتى اليوم. الاختلافات الفكرية في مختلف الدول الإسلامية تمارس غالبا بسلاح التكفير تحت راية الفتوى. وكثيرا ما كانت فتوى التكفير جاهزة وفاعلة داخل الاختلافات الفكرية في البلدان. تقدم باستمرار ضد المخالفين والخارجين عن الخط المذهبي السائد صاحب الكلمة الأولى والأخيرة.إن كان الأمر بهذا الشكل فإن مشكلة فتاوى التكفير المستمرة تحتاج إلى علاج منبثق من الحياة المعاصرة من قيم الإنسانية اليوم. يتمثل هذا العلاج في محاولة تقليل فعالية الفتوى التكفيرية، تقليص قدرتها على العمل عن طريق رفع الحصانة عنها ونزع السلطة منها. هذه الإجراءات هي الكفيلة بإعادة الفتوى إلى موقعها الحقيقي بوصفها رأياً ضمن جملة الآراء لا يلزم أحدا ولا يجب على أحد الالتزام به. نعلم اليوم أن الفتاوى تحظى بحصانة متعددة أهمها الحصانة التي تولدت لدى الناس على مرور الزمن بفعل التقرير والتأكيد المستمر على عدم أحقية أحد في الاعتراض على الفتاوى أو نقدها. كانت الفتاوى تعامل باستمرار بوصفها فوق الجدل والحوار الفكري الدائر، كانت تأخذ تعاليا مقدسا جعلها تبتعد عن النقد والمحاورة الجادة مما كوّن لها هالة مقدسة حوّلتها من كونها رأيا اجتهاديا إلى تعاليم يجب الالتزام بها. داخل علم أصول الفقه يقرر أن الفتوى غير ملزمة، يقول مؤلف كتاب أصول الفقه للصف الثالث الثانوي في درس الفتوى حين يعرّف المفتي «المفتي هو العالم المبيّن للأحكام الشرعية لمن سأل عنها من غير إلزام بالحكم». ولكن التفعيل الأيديولوجي والاستغلال الحركي جعل من الفتوى عصا يضرب بها كل من يختلف مع تلك الأيديولوجيا في التوجه والرؤية. من جهة أخرى من المهم «نزع السلطة من الفتوى» من أجل تحقيق إعادة الفتوى إلى موقعها الصحيح بوصفها رأياً ضمن الآراء لا أكثر. للفتوى سلطة اليوم وتتم على إثرها خطوات عملية تنفيذية، إنها سلطة تغير في الواقع بشكل كبير. نزع السلطة عن الفتوى بوصفها اجتهاداً غير ملزم يشمل كل الفتاوى حتى تلك التي لا تبدو في ظاهرها تدعو لأعمال العنف. الكثير من الأمور التي تغير في الواقع وتؤثر في حياة الناس تنتج عن فتاوى معيّنة مما يحوّل الفتوى من رأي يعبر به صاحبه عن توجهه إلى أمر يلزم به الناس وهنا تكمن الإشكالية الكبرى، إشكالية سلطة المعرفة وتحولها من معرفة ذاتية بالضرورة إلى أمور عامة يجبر الناس على الالتزام بها. حين تتحقق هذه الشروط، وهو أمر أعلم درجة صعوباته، فإن الفتوى ستعود إلى موقعها الحقيقي بوصفها رأياً ضمن الآراء واجتهاداً ضمن الاجتهادات مما سيحد كثيرا من الزخم الذي تولّد لدى الناس عن الفتوى. حين تتحقق هذه الشروط فإن الفتوى ستتعرض للنقد الصريح والمباشر وسيتم الردّ عليها وفحصها دون خوف أو تهديد. في هذا الجو ستتحول فتاوى التكفير بالذات إلى الهامش وتفقد فعاليتها وزخمها، الغالبية من الناس ليسوا متوجهين إلى التكفير، ليسوا متحمسين له، لا تزال هناك رهبة من تكفير الآخرين، ولكنهم تحت وطأة الفتوى كما هي اليوم يفقدون الكثير من براءتهم الأولى مما يدخلهم في مسار التكفير الخطير على الحياة العامة والخاصة. تعمل فتاوى التطرف والتكفير بشكل أكبر وأكثر فاعلية في المجتمعات المختنقة. المجتمعات المنغلقة فكريا. لا شيء يتسق مع العقل المنغلق أكثر من اتساق أفكار التطرف والإقصاء والأحادية والنبذ التي يعتبر التكفير أوجها الأكبر. في الأجواء المنفتحة تفتقد الفتوى انقياد الناس لها، تفقد عماهم. تتواجه مع العقول الحرة، اليقظة، المتسائلة، المتشككة. العقول التي تضع بحسها النقدي الفتوى في موقعها الصحيح بوصفها رأياً ضمن جملة الآراء. ليس هناك من مبرر للانجراف خلفه بكل سذاجة كما يحدث اليوم. الإنسان الذي تشكل وعيه على أنه فرد مستقل، فرد كامل الأهلية، فرد يحمل مسؤولية تفكيره، فرد يعيش استقلاله ويقاوم دونه. هذا الإنسان يحمل في داخله حصانة ومناعة ضد كل فتوى تسلب منه حقه في التفكير وتمارس الإرهاب في المجتمع. طبعا لا يمكن أن يتشكل مثل هذا الوعي دون تحقق الكثير من الظروف التي تقود إلى تحقيق موازنة تسمح بمجال من الحرية يسمح بإمكان تشكيل وعي حر مستقل، وعي يؤمن باستحقاق الإنسان لحريته في فكره واختياراته وآرائه ومواقفه مادامت لا تمثل خطرا حقيقيا على شريكه في الإنسانية، الفرد الآخر. هنا يمكن نزع فتيل فتوى التكفير لتبقى في الهامش بوصفها فتوى ضد الحياة وضد الإنسان، فتوى تستغل مقدسات الناس لتشعل الحرائق بينهم، هذه الفتوى تسببت في سفك الكثير من الدماء، تسببت في الكثير من الدمار، فرقت بين الناس، أثارت الحروب والصراعات الأشد عنفا في تاريخ البشرية. لا سلاح أقدر على مواجهة فتاوى التكفير من المزيد من الحرية، فذلك هو سبيل الانعتاق من ورطة التكفير، الورطة التي تحيطنا جميعا وتهددنا جميعا، جميعا دون استثناء[c1]*«الوطن» السعودية[/c]