أضواء
يا معشر القراء يا ملحَ البلد من يصلح الملحَ إذا الملحُ فسد؟! ومقصد الشاعر القديم من كلمة “القراء” أنهم قراء القرآن وعلماء الدين الذين كان مهم دور هام في تطوير المجتمعات سابقاً، وكثيراً ما يتذكر المرء هذا البيت من الشعر عندما يرى أن من تقع عليهم مهمة تنوير المجتمع يساهمون بشكل أو بآخر بجذب المجتمع إلى الخلف.هذا ما كان عليه وضع اثنين من الأكاديميين استضافهما برنامج على قناة الإخبارية لمناقشة زواج القاصرات، وأحد الضيفين هو أستاذ أكاديمي في علم الاجتماع صال وجال بشكل جيد في الموضوع، لكنه أنهى كلامه بأنه لا يجوز لأي دولة أن تفرض قانوناً على الناس يضادّ ما اعتادوا عليه، بل يجب تهيئة المجتمع عن طريق المثقفين والإعلاميين والتربويين وغيرهم من المهتمين، وقد كان لي مقالات كثيرة تؤيد هذا الرأي مع إضافة هامة هي أن التغيير عبارة عن قطار يسير على قضيبين متوازيين: الثقافة والسياسة، وكلنا يتذكر القول الحكيم إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، إضافة إلى وجود قاعدة فقهية مشهورة تمنح ولي الأمر - أي الحاكم أو الحكومة -إمكانية تقييد المباح إذا وجد فيه ضرر بالمصلحة العامة، وبما أن السماح بزواج القاصرات ليس مضراً بهن فحسب، بل هو مضر بسمعة المملكة في مراعاة حقوق الأطفال، فإنه يجوز للدولة أن تمنع هذا الزواج، وليكن هذا هو القاعدة، وإذا وجد الاستثناء فيبقى مشروطاً بموافقة وزير العدل مثلا بحيث توضع مصلحة الطفلة في المقدمة.وأما الضيف الآخر في البرنامج فهو أستاذ شريعة ولكن الصفة التي وضعها البرنامج تحت اسمه أنه عضو في هيئة حقوق الإنسان، ومع احترامي للآراء المخالفة عموماً، فإن الرأي الذي أتى به هذا الحقوقي لا يتفق مع شريعة حقوق الإنسان المعاصرة، إذ يرى أن تحديد سن الزواج لا يجب أن يكون موضع نقاش لأن الفتاة متى وصلت سن البلوغ فهي أهل للزواج؛ ولكننا نعلم جميعاً أن سن البلوغ لدى الفتيات يختلف من منطقة لأخرى، ففي المناطق الحارة تبلغ الفتاة وهي بعمر 9 أو 10 سنوات، فهل يمكن لأستاذنا الحقوقي أن يصرح برأيه هذا أمام منظمة عالمية لحقوق الإنسان دون أن يثير ضجة شبيهة بالضجة التي أثارها رأيه عن كارثة تسونامي وأنها بسبب معاصي البشر؟!إذا تذكرنا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي يوجهه للشباب عن ضرورة وجود الباءة لدى الشاب كي يتزوج، فإن معنى الباءة هي القدرة على القيام بأعباء الزواج ليس مادياً فقط بل ومعنوياً، وهذا الخطاب نفسه ينطبق على الفتيات، فلا يمكن لفتاة قبل سن الثامنة عشرة أن تكون قادرة على تلبية متطلبات الزواج، وذلك لأنها ما زالت طفلة أو مراهقة على أحسن الأحوال، والطفل عالمه ذاتي فلا يمكن أن يفكر بغيره بطريقة تبادلية أي هو لا يفهم معنى الواجبات والحقوق بشكل عام حتى يستطيع أن يفهمها في إطار الزواج، أما المراهقـة فهي سن عدم التوازن الانفعالي حيث تغلب العاطفة والغريزة على العقل، فهل يستطيع من هذا حاله أن يكون مسؤولا عن أسرة وتربية؟! قد ينجح أحياناً زواج فتى وفتاة قاربا العشرين إذا وجدا الدعم من عائلتيهما، لكن كيف يمكن أن نتخيل نجاح زواجٍ يتضاعف عمر العريس فيه على عمر العروس؟ فما بالنا إذا كان في سن جدها وهي كحفيدته؟! هذا على ضفة زواج القاصرات أما على الضفة الأخرى فنجد أن الفتاة التي بلغت سن الرشد لا تملك من أمر اختيار شريك حياتها شيئاً، فهي تتزوج من وافق عليه والدها، وقد تكون محظوظة بالنسبة لفتاة لا يهتم ولي أمرها لتزويجها، ولقد أخبرتني فتاة كيف اعترضت على عضل والدها لها، فقد بلغت الثلاثين وما زال والدها يرفض المتقدمين لها دون أن يستشيرها، وقد زوّج أخاها الأصغر منها سناً، ثم ها هو يبحث لأخيها العشريني عن زوجة، فما كان منها إلا أن صرخت في وجهه أنه ظالم لها لأنها تريد أن تشعر أن هناك رجلا يحبها ويخاف عليها، فماذا كان رد الأب؟! قال لها: أنا أحبك وأخاف عليك، فردت عليه بأنها تريد رجلا غيره يحبها ويخاف عليها، وإلا فلماذا يتزوج إخوتها الذكور وأمهم تحبهم وتخاف عليهم؟! الأب أعرفه شخصياً وهو رجل فاضل كما يبدو عليه، لكن الأعراف القبلية تسيطر عليه، فلا يمكن لابنته أن تتزوج من غير قبيلتها، وإلا فإن العنوسة بانتظارها؛ ونار العنوسة اضطرت فتاة أخرى لقبول الزواج من رجل لديه زوجة وأربعة أطفال، مع أنها تعمل وراتبها يغنيها عن زواج كهذا، ولكن بلوغها الرابعة والعشرين جعل كل من يراها يخبرها أنها لن تتزوج بسبب مهنتها، وليلة عرسها كانت تبكي لأنها وافقت على الزواج من رجل ليس كفؤا لها، فقط كي لا تلوك ألسنة الناس سيرتها لأنها ممرضة!!في حالة زواج القاصرات وعطـل أو عنوسة الراشدات، فإن ثقافة المجتمع مساهمة بدور كبير في النظرة الدونية للمرأة فإذا كان من يُصنّفون على أنهم أكاديميون لا يجدون غضاضة في هذا الوضع الظالم، فإن المرأة يجب ألا تنتظر من أمثالهم النصرة، وكي لا تبقى الفتاة رهينة المحبسين: إما الزواج كقاصرة أو العضل كراشدة، فإن دوراًحقيقياً يقع على المثقف المخلِّص والسياسي المستنير لرفع الظلم عن هذه الفئات. [c1]* عن / صحيفة “الوطن” السعودية[/c]