الحضارات .. صدام أم حوار؟ .. (2 - 5 )
جاء في لسان العرب لابن منظور "الحضور نقيض المغيب والغيبة، حضر يحضر حضوراً أو حضارة" والحضر خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي، والحاضر المقيم في المدن والقرى، والبادي ـ من البدء أي الظهور الذي نراه بادياً وتشاهده بالعين المجردة أمامنا وهو المقيم بالبادية المكشوفة للرؤية بحكم طبيعتها الصحراوية والحاضرة، خلاف البادية وهي المدن والقرى سميت كذلك لان اهلها حضروا الامصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار .. والحاضرة والحاضر الحي العظيم أو القوم وفي دائرة معارف القرن العشرين الحضارة خلاف البداوة وهي كلمة مرادفة لكلمة المدنية وفي معجم متن اللغة الحضارة ضد البداوة والإقامة في الحضر هي الطباع المكتسبة من المعيشة في الحضر أي المدن.والحضارة عند ابن خلدون هي "غاية العمران ونهاية عمره وانها مؤذنة بفساده، ولها معنيان: معنى الاستقرار في المدن وقيام الدول، ومعنى التفنن والتأنق والمبالغة في عوائد الترف والانكباب على المتع والشهوات واللذائذ سواء كان ذلك في المشرب أو المأكل أو المسكن والملبس والمغتنيات الصناعية والفنية والخدمية.والحضارة عند البرت اشيفيتسر هي التقدم الروحي والمادي للأفراد والمجتمعات على حد سواء".ثمة معان كثيرة ومتنوعة لكلمة الحضارة في اللغة العادية والكتابة والعلوم التاريخية ولا يوجد معنى واحد متفق عليه من العلماء والدارسين وقد استخدمت كلمة الحضارة عبر التاريخ بمعان ودلالات مختلفة وتعرضت لكثير من التحوير والتطوير والتغيير بما يواكب السياقات التاريخية في العصور المختلفة.وأول الحضارة هو الإحساس بالخوف من عاقبة الاعتداء على الآخرين ومن الضرر الذي يصيب الإنسان من اعتداء الآخرين عليه وهو الخوف الذي نعبر عنه بالضمير والوازع ومخافة الأذى والضرر جراء القيام بالذي صار اسمه بعدها لا يحصى من الزمن حرام وعيب وممنوع.غير ان هذا الاحساس الغريزي بالخوف يتحول فيما بعد إلى إحساس بالتمييز والاختلاف والتفوق بين "نحن وهم" نحن المتحضرون وهم المتوحشون.لقد كانت مدينة أوروك المحصنة بالاسوار العالية وجلجامش "الحكيم العارف بكل شيء بطل اوروك وحاميها" في اسطورة جلجامش تمثل "الحضارة" مقابل التوحش البداوة التي كان يمثلها "انكيدو" الذي يجوب البراري والتلال يرعى الكلامع حيوانات البرية.ومن هذه الرغبة في التمييز بين نحن وهم نبعث فكرة الشعب المختار عند اليهود إذ أن الفكر اليهودي منذ بدء التاريخ قسم العالم الى "أنا والاغيار" اليهودي والحوييم وهذا الاخير لا يمكن له ان يفهم التوراة ووصاياها".وان تكون متحضراً كان في الاصل يعني انك تعيش في ظل القانون الروماني أو في الحاضرة اليونانية وكان أهل اليونان يميزون أنفسهم عن سائر الشعوب الأخرى "البربرية" بانهم وحدهم أهل الحضارة وهي على أسلوب في الحياة والعيش متميزاً ومختلف عن الآخرين.وقد حدد الاثينيون العناصر الثقافية الأساسية التي تعرف الحضارة على شكل كلاسيكي، عندما أكدوا لأهل "اسبرطة" انهم لن يفشوا أمرهم للفرس، حيث ان هناك اعتبارات كثيرة وقوية تمنعنا من أن نفعل ذلك حتى لو كنا نريد. أولاً وأساسا هناك صور منازل الآلهة الآثار المحروقة والمدفونة هذه تحتاج إلى أن ننتقم لها باقصى ما نستطيع بدلاً من أن نصل الى تفاهم مع من ارتكب تلك الافعال. ثانياً الجنس الاغريقي من نفس الدم نفسه واللغة نفسها عموماً وعاداتنا المتشابهة .. ولن يخون الاثينيون ذلك ابداً" هنتجتون ص 69 .وقد كانت روما المسيحية عند القديس أوغسطين هي "مدينة الله" مقابل مدينة الشيطان البابلية.واعتقد الفرس انهم وحدهم أهل الحضارة وصناعها مقابل العرب المتوحشين واذا كان الإسلام في بداية أمره قد ساوى بين جميع بني البشر إلا بالتقوى، إذ لا فرق بين عربي على عجمي إلا بالتقوى "والناس سواسية كاسنان المشط" فالإسلام دين عالمي موجه إلى الناس كافة على عكس الدين اليهودي الذي اكتسب صبغة قومية متزمتة منذ بدايته، حيث اعتقد اليهود بانهم وحدهم الذين اصطفاهم الله لتبليغ كلمته إلى سائر الشعوب الأخرى، وكان لهذه الفكرة العنصرية أثر كبير في التمييز بين "نحن وهم" بين أبناء اله وأبناء الشيطان، بين المتحضرين والمتوحشين.ويعتقد أهل الصين في بداية العصور الحديثة انهم أبناء السماء ويعتقد الهنود بان السر الإلهي قد حل فيهم، وان النرفانا هي طريق خلاص الروح من الجسد، في الواقع ان ظاهرة التمركز حول الذات لم تقتصر على شعب من الشعوب بل يمكن ملاحظتها عند كل المجتمعات، فكل إنسان يرى نفسه مركز الكون وكل جماعة ترى نفسها نهاية التاريخ وخاتمته.وكان تفوق الحضارة العربية الإسلامية في أوج ازدهارها في القرنين الثالث والرابع الهجري والإحساس المتعاظم بالقوة والتميز قد حفز بعض الكتاب إلى القول بأن "العرب هم أفضل الشعوب" وانهم هم الحضارة والآخرين عجم متبربرين حيث يعلن ابن موسكوية "بان الاتراك والعجم هم أشبه إلى القرود والخنازير".وفي العصور الحديثة أطلقت كلمة "الحضارة" بألف ولام التعريف على أوروبا مقابل الآخرين غير المتحضرين.إذ أن الكلمة ظهرت في ستينات القرن السادس عشر في فرنسا من قبل بعض المحلفين الفرنسيين أمثال جان بودان ولويز لوروى بمعنى تحضر وتهذيب Civilite Cirillse وهي تصف الناس الملتزمين بالعمل وفق أشكال سياسية معينة وتكشف فنونهم ووسائلهم عن درجة من الكياسة والسمو ويعتبرون اخلاقهم وسلوكياتهم أرقى من اخلاقيات وسلوكيات غيرهم من أبناء مجتمعهم أو المجتمعات الأخرى .. ومنذ القرن الحادي عشر فصاعداً شاع وصف الشعوب والجماهير الفلاحية بما في ذلك سكان المستعمرات بأنهم أجلاف سذج محكوم عليهم بسبب وضعهم المتدني في المجتمع بالغباء والخشونة وسوء السلوك" باترون20.وأكتسبت كلمة الحضارة في أوروبا الحديثة معنى التميز والتفوق، حيث جرى الاعتقاد حتى أواخر القرن التاسع عشر بان أوروبا وحدها هي الحضارة والباقي يحتاج إلى تحضير وكان الاستعمار مدفوع بهذا الحافز، ومن هنا تفهم قول ماركس في وصف أهل الشرق "انهم عاجزون عن تمثيل أنفسهم كما ينبغي أن يمثلو".على هذا النحو أكتسبت معنى كلمة حضارة دلالة عنصرية عرقية قومية تعصبية ومازالت حتى اليوم في كثير من الثقافات الراهنة.منذ بداية القرن العشرين بدأ نقد المركزية الغربية شبان الحضارات وكان أول ناقد كبير لها هو الفيلسوف الألماني اوزولد شينجلد 1938م حيث بين في كتابه "تدهور الحضارة الغربية" وجود عدد من الحضارات الجديدة بالاهتمام بالإضافة إلى الحضارة الغربية هي الحضارات المصرية القديمة، وحضارة بلاد الرافدين الأشورية والأكادية والبابلية والكنعانية والحضارة الهيلنية والحضارة الصينية والحضارة الهندية والحضارة العربية الإسلامية والحضارة الرومانية والحضارة السلافية الارتوسكية الروسية والحضارة الغربية.ثم جاء ارنولد توينبي في عمله الشهير "دراسة التاريخ" ليشدد النقد إلى فكرة الحضارة الغربية المتمركزة حول ذاتها كاشفاً عن عدد واسع من الحضارات الجديرة بالتسمية قدرها بـ 26 حضارة عقيمة ومتعطلة ومتعاقبة محققة وناجحة، زائلة ومستمرة.يقول لنا توينبي لقد كان الاعتقاد السائد في الغرب حتى أواخر القرن التاسع عشر ان الحضارة هي أوروبا وان التاريخ قد انتهى مع الامبراطورية البريطانية وانه لم يعد شيء جديد يمكن انجازه في التاريخ.ومثل هذا الاعتقاد يظهر اليوم في الامبراطورية الأمريكية المنتصرة، حيث ينهي فرانسيس فوكوياما التاريخ ويذهب هنتجتون إلى القول بان الحضارة هي أوروبا وأمريكا، في مقابل العالم غير المتحضر الباقي حسب تعبير "الغرب والباقي قضايا التداخل الحضاري"عنوان الفصل الثامن من كتاب "صدام الحضارات".[c1]يتبع...[/c]* د. قاسم المحبشيأستاذ فلسفة التاريخ والحضارةالمساعد/ جامعة عدن